القدس العربي-
في الوقت الذي ارتجل فيه بابا الفاتيكان كلمتي «أشقائنا المسلمين» في كلمته التي نعى فيها ضحايا «مجزرة المسجدين» في نيوزيلندا، والتي عبّر فيها عن عاطفة حقيقية تجاه الضحايا القتلى والجرحى وعائلاتهم، طالبا الصلاة من أجلهم، كانت الرسائل الرسمية التي جاءت من المملكة العربية السعودية رداً على المذبحة باردة وخالية من العاطفة لا تليق بالبلاد التي انطلق منها الإسلام والتي يحجّ إليها الملايين كل عام وينتظر المسلمون من قيادتها التعبير عن هذا المعنى الرمزي الهائل الذي تختزنه البلاد.
تحدث الملك سلمان بن عبد العزيز معلقا على الحادث بتغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر واصفا ما حصل بـ«عمل إرهابي» معزّيا رئيسة وزراء نيوزيلندا مساندا بلدها «في هذا العمل الإرهابي الذي تدينه كل الأديان والأعراق والمواثيق»، ومحمّلا المجتمع الدولي «مسؤولية مواجهة خطابات الكراهية والإرهاب».
أما عبد الرحمن السديس، إمام المسجد الحرام ورئيس شؤون الحرمين، فعلق على الحادثة بالقول: «جريمة نكراء، في حلقة سوداء، ضمن سلسلة دهماء من أعمال الإرهاب العمياء، والفتن السحماء»، وهو قول كان قد استخدمه للتعليق على جريمة وقعت في السعودية قبل 3 سنوات، أما إمام المسجد الحرام السابق، عادل الكلباني، فارتأى أن يقول إن: «ما يخفف المصاب أن القاتل ليس مسلما، فكم قتل مصلون بأيدي مسلمين!»، وهو ما أدى إلى قرابة 10 آلاف رد عليه خلال أقل من 3 ساعات، حيث اعتبر الناشطون تغريدة الكلباني استفزازا لجميع المسلمين، وتساءلوا عن سبب نقله القضية إلى اتجاه آخر في حين أن الحكومة النيوزيلندية نفسها اعترفت بدوافع العنصرية والكراهية لدى المهاجم.
تعرّضت السعودية لهزّات تاريخية كبرى ضمن الموضوع الإسلامي، أهمّها كان حركة جهيمان العتيبي عام 1979، والتي أرعبت السلطات السعودية وجعلتها تعيد شراكتها القديمة مع الحركة الوهابيّة وتعيد تمثيلها للاتجاه المتشدّد سياسياً والسلفيّ دينياً، أما هجمات الطائرات التي قادها تنظيم «القاعدة» في 11 أيلول/سبتمبر 2001 على برجي مركز التجارة الدولية في نيويورك ومقر وزارة الدفاع الأمريكية، فأدّت إلى خضّة أكبر فمن بين الـ19 مهاجما كان هناك 15 سعودياً (وإماراتيان ومصري ولبناني)، وهذا ما جعل الرياض بمثابة هدف أمريكيّ، وتم تحميل بعض الأمراء السعوديين مسؤولية الهجمات كما قام أمريكيون كثر برفع دعاوى على المملكة باعتبارها مسؤولة عن الهجوم.
لا يمكن فصل الحادثة الأخيرة، والربط الدوليّ بين دعم المملكة للتشدد الدينيّ والحركات السلفيّة في العالم، عمّا حصل لاحقاً في المملكة من تحوّلات كان أبرزها، بالتأكيد، وصول السلطة إلى الملك سلمان ثم تسليمها إلى ابنه، ووليّ العهد، محمد بن سلمان، والذي قاد حملة إعلامية كبرى داخل بلاده وخارجها تعد بوضع المملكة على طرق الحداثة والتقدم والازدهار الاقتصادي، وكان المضمون المفهوم، «لمن يعنيهم الأمر»، وللقوى الكبرى النافذة، انفتاح بلاده على العالم وانخراطها في العولمة اجتماعيا، وليس اقتصاديا فحسب، ووقف الممارسات التي يندد بها العالم من حفلات الإعدام بالسيف، إلى منع المرأة من قيادة السيارة الخ…
ما اكتشفه العالم والسعوديون، بعد ذلك، أن السلطات السعودية تريد أن تلبس قناع التحديث فبدل السعي الحقيقي لتحرير النساء صدر قرار بن سلمان التاريخي بالسماح لها بقيادة السيارة وفي الوقت نفسه قام باعتقال الناشطات اللاتي كن يطالبن بذلك القرار، وبدل فتح البلاد للحريات واختلاف الآراء اشترت البرامج الإسرائيلية لمراقبة السعوديين وسعت لاعتقال من يصدر رأيا لا يناسبها، وبدل دعم حرية التعبير والسياسة فقد طاردت النشطاء والأكاديميين والدعاة، وبدل دعم الإبداع والفن روّجت لحفلات المصارعة الحرة و«الترفيه»!
تبدو القيادة السعودية في ردود أفعالها على أحداث خطيرة كحركة العتيبي وهجوم 2001 مثل النوّاس الذي يُقرع لليسار فيذهب إلى أقصى اليمين والعكس، وبدلاً من إيجاد موقع حقيقيّ يعبّر عن نفوذها الإسلامي وحجمها الاقتصادي فإنها تلجأ للحلول القديمة وتلبسها ثيابا جديدة، فبدل الحج تفكر بالسياحة، وبدل الإبداع تفكر بالترفيه، وبدل الاقتصاد تفكر ببيع أرامكو، وبذلك تستمر في فقدان وزنها واحترامها في العالم.