فهد الأحمري- الوطن السعودية-
أصبتُ بالذهول لهذا التشدد الفقهي والذي يمارِس تجاهل وإخفاء الآراء الأخرى التي هي محل اعتبار رغم أن بعضها وارد عن الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف
الوهلة الأولى التي أسمع فيها أن هناك رأيا آخر في موضوع وجوب صلاة الجماعة، كان ذلك عام 1996 أثناء دراستي في كلية أصول الدين بجامعة تُعد معقلا من معاقل الدراسات الإسلامية في السعودية، والتي للتو التحقت بها كطالب علم شرعي قادما من بيئة متشددة لا ترى إلا رأيا فقهيا واحداً وهو ما كان عليه رموز الفقه المحلي. في إحدى تلك المحاضرات سمعت الدكتور الفقيه يُسهب في شرح هذه المسألة الخلافية عند السلف والخلف.
حقيقة، لقد صُدمت من هذا الطرح، وكنت التفت يمنة ويسرة في الزملاء الطلاب - الملتحين مثلي - لسبر ردود أفعالهم لعل أحداً منهم يقدم اعتراضا أو إنكارا أو تذمرا، دون جدوى!
كان الرأي الفقهي المهيمن على المجتمع والذي لا يختلف عليه اثنان ولا يتناطح فيه عنزان هو تحريم الأخذ من اللحية حتى اطلعت على الأقوال المختلفة في المسألة، ومنها أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأخذ ما زاد عن القبضة، ثم أن هذا الأمر ساقني للاطلاع على مسألة الكبائر والصغائر فوجدت أن الأخذ من اللحية يعد من باب الصغائر وليس من كبارها، كما كان يشاع على المنابر لأن الكبائر عند الأصوليين هي «ما كان فِيهِ حدّ فِي الدُّنْيَا، أَو جَاءَ فِيهِ وَعِيد فِي الْآخِرَة؛ بالعَذَاب، أَو الغضب، أَو كان فيه تهديدٌ، أَو لعنٌ لفَاعلِه». وكل ما جاء في مسألة اللحية يقع بين الواجب والسنة والأخير أقرب لحديث مسلم (عشر من الفطرة... منها إعفاء اللحية) والفطرة هي السنة.
بعد أن سيطر المفهوم الشائع على حرمة التصوير بكل أشكاله، اتضح لي من خلال دراستي الفقهية والحديثية المنهجية في الجامعة الأصولية أن التصوير الفوتوجرافي حلال بالأدلة الشرعية والمنطقية.. يا إلهي.. لقد أشعلت النار في كل صور عمري ومناسبات حياتي وذكريات عائلتي، بل وسطوت على صور خاصة لأهلي وبعض أقاربي وأصدقائي وأتلفتها، بل وقمت بالتأثير السلبي على كثير من الناس وحرضتهم على فعل الأمر نفسه ضد كل مقتنياتهم الفوتوجرافية التي يحتفظون بها لأفراد أسرهم، وشهدتُ شخصيا غزوات حرق ألبومات صور عدة لكثير ممن تاب على يدي فضيلتي كداعية وشيخ وطالب علم!
كانت الفتوى الدارجة تقضي بتحريم إطالة الثوب تحت الكعبين قولا واحدا لا جدال فيه عند الجميع ولا يستطع أحد مناقشة هذه المسألة البتة.. غير أن القراءة والاطلاع الشرعي قادني إلى معرفة أن أقوال جمهور العلماء (مالك، الشافعي، ابن. حنبل، ابن تيمية، النووي، الصنعاني) وغيرهم تختلف عن هذا الرأي السائد، فقد رأوا أن الأحاديث مبنية على شرط مهم وهو الخيلاء والبطر لحديث (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة). وحديث (بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة). وكذلك (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً).. وعليه فإن قيد الخيلاء والبطر لازما في الأحاديث الواردة، ولم يرد فيها إلا وله معنى معتبر.
كان الاعتقاد الجازم والمتداول في الأوساط الفقهية المحلية بل وفي أغلب المجتمعات العربية على تحريم الموسيقى والغناء حكما قاطعا لا نقاش فيه حتى تبين لي، فقهيا، أنه ليس هناك دليل صحيح صريح واحد يُستند إليه في هذه المسألة تحديدا.. كل ما هنالك هو رأي منسوب للصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه عن الآية (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم..) حيث يُقسِم ابن مسعود أن المراد الغناء. عند تفحصي لهذه المسألة، تفحص طالب العلم المتجرد من التعصب المذهبي والفقهي، وجدتُ أن أمر التحريم ليس قطعي الثبوت كما كنت أعتقد، وأن المسألة فيها خلاف كبير. هالني ما قرأت من قوة حجة أصحاب العلم الشرعي السابقين واللاحقين من الفقهاء والمحدثين المعتبرين الذين يرون جواز الغناء والمعازف وكثرة عددهم.
أصبتُ بالذهول لهذا التشدد الفقهي والذي يمارِس تجاهل وإخفاء الآراء الأخرى التي هي محل اعتبار رغم أن بعضها وارد عن الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف.
تساءلت لماذا لا نرى هذه الأقوال المعتدلة في كلام الفقهاء والمفتون فكان الجواب المباشر؛ الخشية من أمرين، خشية سياط الوسط الفقهي والوسط المجتمعي، وكلاهما لا يرحمان لهذا يرى البعض أن السلامة منهما أولى.