مياسر الزعاترة- العرب القطرية-
لا مناص للساسة من الاستماع لنبض الناس والتعامل معه وإلا فستبقى حياتهم ضرباً من التوتر الذي لا ينتهي.
الرعب يفرز معارضة خارجية تتفنن في ملاحقة وتعرية النظام الذي تعارضه وتسخّر كل إمكاناتها لتحقيق ذلك.
الناس ليسوا سواءً في تحمّل الأذى والضغوط، لكن أي ضغط لا يسوّغ تبرير الباطل وإن برر الصمت أحيانا تبعا لشدة البطش.
لا يُصنّف عالِماً إذا كان قشة بمهب الريح يغيّر مواقفه بين عام وآخر، خاصة التغيير الجذري بين الحِل والحرمة وبين الصواب والخطأ.
* * *
قلنا مرارًا إن حياة السياسيين باتت بالغة الصعوبة في زمن مواقع التواصل؛ فهم ملاحقون يومياً ويواجهون النقد والهجوم والتفنيد لما يقولونه ويفعلونه على مدار الساعة.
وفي حين صارت مواقع التواصل خاضعة للرقابة- كما وسائل الإعلام في الزمن الماضي- فإن المهمة هنا تبدو بالغة الصعوبة.
في السابق، كانت مراقبة عدد محدود من وسائل الإعلام مهمة سهلة، لكن مراقبة ملايين الحسابات على مواقع التواصل تبدو أمراً بالغ الصعوبة، فكيف حين يشمل ذلك ملايين الهواتف التي تتواصل عبر «الواتس» وتتناقل الأخبار والتعليقات، ومن الصعب -وربما من المستحيل- إخضاعها جميعاً لقوانين «الجرائم الإلكترونية».
صحيح أن أجواء الرعب التي تشيعها بعض الأنظمة لا تزال تفعل فعلها بهذا القدر أو ذاك، بحيث يغدو تناقل المواد الناقدة لسلوكها أمراً صعباً، لكن الأمر يغدو من جهة أخرى أكثر صعوبة من وضع الأنظمة المتسامحة مع بعض أشكال المعارضة.
ذلك أن أجواء الرعب غالباً ما تفرز معارضة خارجية، والأخيرة تتفنن في ملاحقة النظام الذي تعارضه وتعريته، وتسخّر كل إمكاناتها لتحقيق ذلك. وهنا سيكون من المستحيل على تلك الأنظمة أن تلاحق من يشاهدون المقاطع على «يوتيوب» ومواقع التواصل الأخرى، أو يتابعون حسابات المعارضين وما ينشرونه يومياً من خلال حساباتهم.
من الطبيعي هنا أن يجيّش كل نظام وسائل إعلامه للرد على الانتقادات اليومية، لكن اللافت أن بضاعة المعارضين غالباً ما تكون أكثر رواجاً من التهريج الإعلامي الذي يدعمه النظام (أي نظام)، بل غالباً ما يتحوّل ذلك التهريج إلى مادة دسمة للمعارضين أيضاً؛ ليس في تسخيف أصحابه وحسب، بل في تسخيف النظام الذي يشغّلهم.
الطرف الآخر الذي صار مادة دسمة لمواقع التواصل هو «مشايخ السلطة»، أو من يتحوّلون من مربع المعارضة أو الاستقلالية إلى مواقع السلطة؛ فهؤلاء صارت حياتهم أكثر صعوبة من ذي قبل، ومن يتابع سيرى كيف فضحت تلك المواقع بضاعتهم وتحوّلاتهم خلال المراحل الأخيرة.
وبات إنكارهم مواقف سابقة لهم موضع تندّر وسخرية من قبل النشطاء الذين يصنعون فيديوهات تتضمن كلامهم السابق واللاحق؛ الأمر الذي يفضحهم من جهة، ويفضح منظومة الترهيب والترغيب التي اضطرتهم إلى ذلك التغيير في المواقف من جهة أخرى.
خلال الأسبوعين الماضيين، انشغلت مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام (متابعة مواقع التواصل صارت جزءاً من عمل الأخيرة اليومي)، بقضية داعية سعودي (عائض القرني) خرج على الناس منقلباً على كثير من مواقفه السابقة.
وقد كان هو ذاته قبل الخروج الأخير موضع تندّر وسخرية عبر فيديوهات ترصد كلامه السابق واللاحق، وإنكاره ما هو متاح من كلامه في «يوتيوب».
ليس هذا موضع مناقشة الكلام الجديد الذي قاله؛ فهو من السطحية بحيث لا يستحق الرد، لا سيما أنه يتحدث عن مرحلة لا يزال أكثر شهودها أحياء، ومن الصعب -بل من المستحيل- تزييفها.
وما يعنينا هنا هو وضع المشايخ في زمن مواقع التواصل، والذي لا يختلف عن وضع السياسيين، من حيث إن حياتهم صارت أكثر صعوبة؛ إذ من المستحيل عليهم أن يحذفوا من مواقع التواصل -خاصة «يوتيوب»- ما سبق أن قالوه، فكيف حين يحدث أن يغيّر أحدهم مواقفه مراراً خلال سنوات معدودة.
المراجعات من قبل العلماء والمفكرين وسائر الناس هي سُنّة طبيعية، وما من أحد لا يتغير. لكن الانقلابات التي تحدث في سنوات قصيرة لا يمكن أن تُصنّف ضمن دائرة المراجعات؛ بل هي شكل من أشكال التراجعات، سواء وقعت بسبب الترغيب أم الترهيب.
فيما البُعد الآخر يتعلق ببعض القوم الذين تعكس انقلاباتهم لوناً من التخبّط، بما يجعلهم غير قادرين على الحصول على ثقة الناس؛ لأن الأصل أن للعالِم المعتبر نهجاً في التفكير والاستنباط، ولا يمكن أن يُصنّف عالِماً إذا كان قشة في مهب الريح!
يغيّر مواقفه بين عام وآخر، خاصة إذا كان تغييراً من النوع الجذري بين الحِل والحرمة وبين الصائب والخاطئ، أو بين تصنيف هذا الفعل في إطار العمل الثوري أو الجهادي الصائب ثم يتحوّل بعد وقت محدود إلى كارثة أو مؤامرة.
يبقى أنه في مقابل هذا اللون من الدعاة أو المشايخ الذين انقلبوا على مواقفهم -بل ومبادئهم أيضاً- هناك جحافل من أمثالهم ممن ثبتوا على مواقفهم ومبادئهم ودفعوا ويدفعون الأثمان مقابل ذلك.
في النهاية، فإن الناس ليسوا سواءً في تحمّل الأذى والضغوط، لكن أي ضغط -مهما كان- لا يسوّغ تبرير الباطل، وإن برر الصمت في بعض الأحيان تبعاً لشدة البطش.
لذلك، ينبغي مع كل متابعة لمن يسقطون في وحول السياسة ومتطلباتها، أن يتم التذكير بالآخرين الذين صمدوا ودفعوا مقابل ذلك سجوناً وتعذيباً وعسفاً؛ لأن ذلك هو الضامن لعدم بث الإحباط في نفوس الأجيال الجديدة وتشكيكها في رموزها، وصولاً إلى تشكيكها في دينها.
أما الساسة، فلا مناص لهم من الاستماع لنبض الناس والتعامل معه، وإلا فستبقى حياتهم ضرباً من التوتر الذي لا ينتهي.