فهد الماجد- الرياض السعودية-
أنعم الله على الإنسان بلغة البيان، ولذلك يعبِّر عن ما في خاطره بواسطة لسانه، ومع ذلك قد يعبِّر بوسائط أخرى؛ حتى ذكر الجاحظ: (أن الأوائل زعمت أن الإنسان إنما قيل له العالم الصغير سليل العالم الكبير؛ لأنه يصور بيديه كل صورة، ويحكي بفمه كل حكاية).
أيضاً؛ ما أكثر الأبيات الشعرية التي تصوِّر لنا تعبير العينين بما هو - أحياناً- فوق تعبير اللسان، ومن قولهم:
ربَّ طرفٍ مصرِّح عن ضمير بما هجسْ
وفي سياق ما ذكرت يقول الأديب المصري «الرافعي» كلمة -وإن كان عليها مسحة الأدب والشاعرية- إلا أنها واقعة فعلاً، فهو يقول: «كلام الفكر من اللسان، وكلام القلب من العينين، أما كلام الروح فهو هذه الحركة البليغة وحدها» يعني: الابتسامة.
فأنت تلاحظ أن الإنسان له طرق متعددة في التعبير، وقد يفضل واحدة على أخرى، بحسب مقصوده، وبحسب حاله.
وقد يعجب البعض إذا قلنا: إن الفتوى قد يعبَّر عنها بطرق متنوعة؛ فليس شرطاً أن تكون فتوى قولية، فقد تكون بالإقرار، بمعنى أن المفتي يسأل عن واقعة معينة، وأن شخصاً ما صنع فيها كذا وكذا، فيسكت المفتي إقراراً منه بما فعل. وفي السنة النبوية بعض الوقائع تصلح مثالاً للإقرار.
أيضاً قد تكون الفتوى بواسطة الكتابة وهذا كثير. كذلك قد تكون بالإشارة إذا كانت كافية ومؤدية للغرض، وقد وقع هذا في فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه في حجة الوداع سأله أحدهم، فقال: (ذبحت قبل أن أرمي، فأومأ بيده، قال: لا حرج) ولم يتلفظ عليه الصلاة والسلام وإنما اكتفى بالإيماء الذي فهم منه السائل بأنه لا حرج عليه، ولذلك بوَّب البخاري في صحيحه على هذا الحديث بقوله: باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس.
وقد تكون الإجابة بواسطة الفعل، ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما سُئل عن أوقات الصلوات، لم يجب مباشرة، بل صلى اليوم الأول الصلوات كلها في أول وقتها، ثم في اليوم الثاني صلى الصلوات كلها في آخر وقتها، وقال: (وقت صلاتكم بين ما رأيتم) قال النووي تعليقاً على ذلك: وفي الحديث البيان بالفعل فإنه أبلغ في الإيضاح.
ولئن وجدت هذه الطرق في تبليغ الفتوى، فإن الفتوى القولية تظل هي الغالبة والشائعة.
وهذه الطرق بقيت كما هي منذ عهد النبوة إلى وقتنا الحاضر، لم تزد ولم تنقص، بيد أنه حدث تطور كبير في وسائل نقل الفتوى بسبب التقدم التقني، والاتصالي، فلقد كان فيما مضى وإلى وقت قريب، يسأل السائل ويجيب المفتي، ولا يسمعه إلا العدد القليل، أما الآن فأصبحت بعض الفتاوى تنتشر عبر القارات ويطلع عليها الملايين، وكأن المتنبي يصف ما هو كائن الآن بقوله:
إذا قلته لم يمتنع من وصوله جدار معلَّى أو خباء مطنّب
والأمر هنا ذو حدين: فعلى المؤسسات الإفتائية المعتبرة استثمار التقنية لإيصال رسالتها المعتدلة، وفي المقابل على الدول الإسلامية بمؤسساتها المعنية تتبع الفتاوى الشاذة والمتطرفة ومعالجة من يصدر منه هذا النوع من الفتاوى وفق الأنظمة المرعية في كل بلد، فهو يسيء إلى المجتمع المسلم في استقراره الديني والفكري والأمني، ويسيء إلى صورة المسلمين في العالم.