سعود البلوي- الوطن السعودية-
من العوامل التي تكرس انضمام الشباب للجماعات الإرهابية؛ التربية المنطلقة من فكر متطرف يفضي إلى كراهية الذات والآخر على السواء، لا سيما في ظل شيوع مبادئ المنع والتحريم، وانحسار الخيارات الثقافية والإبداعية قبل عدة أعوام، في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، التقيت شابا يدعى محمد، يعمل ضمن فريق الأمن والسلامة في الفندق الذي أقمت فيه. كان لطيفا وجادا؛ إلا أن الأمر الأهم الذي ساعد على فتح باب الحوار بيننا هو إجادته اللغة العربية الفصحى التي تعلمها في حلق التعليم غير الرسمي، حيث كان والده حريصا على تعليمه العلوم الشرعية والعربية كما يقول، بل حلم بأن يكون ابنه عالم دين، وأخبرني محمد أنه يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما ويرغب في مواصلة تعليمه الديني، إلا أن ظروف البحث عن سبيل عيش كريم، أبعدته عن إكمال ما كان يرغب فيه، كما أن وجود مولود لديه يبلغ من العمر شهرا أسهم في عزمه على مواصلة رحلته اليومية القاسية.
كان زملاؤه من حوله يدخنون، ويسمعون الموسيقى، ويمزحون، ويأكلون مع بعضهم كفريق عمل متناغم، ولم ألحظ على محمد أنه ينأى بنفسه عن زملائه أو يحاول مضايقتهم وفرض توجهات ما عليهم، إلا أنه صارحني أنه يعاني ضيقا نفسيا كبيرا بسبب شعوره بضعف المجتمعات والدول الإسلامية وما آلت إليه أوضاعها من سوء؛ ولذلك هو اختار لابنه اسم (محيي الدين) أملا منه أن يسهم في رفعة الدين والشعوب الإسلامية، وإحياء سالف أمجادها حين كان فيها المسلمون أقوياء يعيشون بكرامة واطمئنان متفوقين على غيرهم.
لم يكن ما طرحه محمد جديداً، ولذا حاولت أن أعرج في الحوار معه على موضوع "الإرهاب"، حيث كان يستمع بشكل جيد ويتحدث بهدوء واتزان، ولم تظهر عليه أي علامات للتشدد، غير أنه صرّح بأن الشباب المسلم في مختلف أنحاء العالم يلجأ إلى "الإرهاب" نتيجة ما يجدونه من ظلم وظروف قاسية مختلفة وبُعد عن تعاليم الإسلام، وحين ذكرت أن الكثير من الفقراء والمنكوبين والمشردين في العالم يعانون أوضاعا اقتصادية وسياسية صعبة لكنهم يناضلون في سبيل الحياة، أخبرني أن هؤلاء ليس لديهم الهمّ والاهتمام بالارتقاء بمجتمعاتهم وأممهم؛ ولذلك هو يتمنى أن يقوم ابنه (محيي الدين) بواجبه تجاه الأمة الإسلامية، مؤكدا أنه ليس قلقا من عدم توفر مصدر لرزق لابنه، فالرازق في السماء، لكنه قلق على تربية ابنه على القيم الإسلامية الصحيحة، ويتمنى أن يراه عالما وقائدا يرفع لواء الأمة الإسلامية ويسهم في عزتها وكرامتها. استأذن محمد بعد هذا الحوار ليذهب إلى بيته وزوجته وابنه، ولم أره بعد هذا اللقاء الذي جاء مصادفة، ولكن لم يغب عن ذهني تراكم القيم التربوية لثلاثة أجيال امتدت بين محمد وابنه وأبيه الذي يعمل فلاحا يمارس حياته اليومية مثل بقية الناس في قريته، غير أن محمد الذي تربى في دولة ذات قيم مدنية، كان متحمسا وحائرا -في الوقت ذاته- في البحث عن حل جذري لاستعادة مجد الأمة كما قال؛ ولذلك حمل هم ابنه تجاه هذا المطلب وهو لا يزال بعد في المهد.
كنت أعتقد جازما أن محمدا وابنه -والكثير من أبناء المسلمين- ليسوا بمنأى عن هذا التفكير، وبالتالي عن احتمالية الانخراط في مشروع الانضمام للجماعات الإرهابية، وخاصة إذا ما توفرت بعض العوامل التي تكرس هذا الاحتمال وتغذيه عبر الأجيال، ومنها: التربية المنطلقة من الفكر الديني المتطرف المفضي إلى قيم تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل تسهم في كراهية الذات والآخر على السواء؛ ولا سيما في ظل شيوع مبادئ المنع والتحريم، وانحسار الخيارات الثقافية والإبداعية، بحيث كلما تقدم جيل في العمر أصبح أكثر تشددا وجهلا بالنسبة لسابقه، مع ضعف في القيم المدنية وعدم وجود مؤسسات مجتمع مدني فاعلة، وهشاشة النظم السياسية القائمة على زيف الديمقراطية، وانتشار الفساد والهدر المالي، وسوء توزيع الثروات الوطنية في ظل ضعف اقتصادي، وتآكل الطبقات الاجتماعية متوسطة الدخل، وانتشار الفقر وضعف الخدمات الصحية، وشيوع ظواهر التهميش المجتمعي والسياسي للشباب، وتكريس "الجهل المؤسس" في التعليم الذي يفترض أن يكون تعليما مدنيا.
هذا في الدول ذات الأنظمة السياسية شبه المستقرة، أما في الدول التي تظهر فيها -أو من حولها- الأرض الخصبة للإرهاب فإن احتمال سقوط الشباب في التشدد وانخراطهم في الجماعات الإرهابية يزيد بطبيعة الحال، كما هي الأوضاع الحالية في الشرق الأوسط حيث تنتشر مواطن الحروب والصراعات كبؤر خارج نطاق سيطرة الدول، وسط تنامي الصراعات الطائفية أو العرقية التي أصبحت بديلا عن الصراعات الدينية بين أتباع الأديان.
هنا يتحول الشباب الذين هم مكونات المجتمع إلى خطر داهم، بالضبط كما هو جبل الجليد الذي لا يتضح منه إلا قمته، بينما يكمن الجزء الأكبر والأعمق من تكوينه في عمق المحيط فلا يرى دون الغوص فيه، وبالتالي تتراكم القيم الداعمة للفكر الديني في المحيط الفردي والأسري والاجتماعي، فيمتلك أهم الأدوار في إضعاف مؤسسات الدولة والمجتمع؛ وربما ترتد القيم الحضارية والإنسانية إلى أسوأ من العصور السابقة فتعود قيمة الإنسان فيها صفرا!