دعوة » مواقف

مولد أم ميـلاد؟

في 2015/12/26

د. هاني الملحم- اليومك السعودية-

مع ميلاد شهر ربيع الأول كل عام تستعيد الذكريات والتاريخ مولد محمد عليه الصلاة والسلام والذي بمولده أشرق الكون نورا وعلما وحضارة، تلك الولادة التي اشترك فيها العالم كله وكتب عنها بل وسجل من خلالها الأثر الفكري على الإنسانية، والمطالع على سبيل المثال لكتاب (الإنسان ذلك المجهول) للفيلسوف" إكسرن كرك" يدرك في رأيه معيار الحضارة والتي هي تقدم إنسانية الإنسان، وليس تقدم الماديات والجمادات، ولكن بعد ذلك اضطر أن يقدم للعالم اعترافا آخر فقال: "لا بد من جمع الأديان وعصرها ثم دمجها واستخلاص روحانية مشتركة توزع على الحضارات المادية فتكون بمثابة هداية.. تهذب الأخلاق وتغذي الروح وترتقي بالمشاعر".

هذا الحوار كان ردا على نظرة أستاذه الفيلسوف"برنارد شو" الاشتراكي بعد ما ألف كتابا أظهر فيه إعجابه الكبير بالموسيقار "فاغنار" وذلك حينما قال إن معيار الحضارة في العلوم المادية والتكنولوجية وفي المقابل سقوط في الإنسان فلا روح ولا قيم ولا مبادئ ولا أخلاق، إلا أن "إكسرن كرك" استدرك على نفسه وعلى ما كتبه في كتابه الذي جعل الإنسان كائنا يسير للمجهول، ويعب من كأس الحضارة المادية فقال للعالم: "لو أن محمدا عليه الصلاة والسلام- قام من قبره في القرن العشرين لاستطاع أن يحـّل مشاكل العالم.."، وهذا الكلام لرجل اشتراكي له مكانته في العالم، وفي نفس الوقت يخرج علينا رجل عربي يتكلم بلغتنا أظنه حينما قال هذه العبارة لم يكن في وعيه اذ قــال: "لو أن محمد بن عبدالله جاء إلينا في القرن العشرين ونظر إلى واقعه لغير رأيه..".

فالعالم يدرك معنى قدسية أيام ولادة الأنبياء وأثر ميلاد نبوتهم وحضارتهم الأخلاقية، فكما تقدس وتوقر المسيحية ولادة عيسى عليه السلام _ مع خلافهم التأريخي في ولادته _، كذلك يوقر العالم الإسلامي يوم ولادة محمد عليه الصلاة والسلام ويتوحدون لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وسنته التي ضيعت في زمن ضياع الهويات، وفي المقابل هو خلق وشعور يحمل في طياته أن رسول الإنسانية هو رسول العالم كله فهو الذي قدم إنسانية الإنسان في روحه وفي عقله وفي جسده وفي مجتمعه وفي كل موقع يوجد فيه هذا الإنسان، الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه الأسماء كلها ثم امتن عليه فأرسل له رسول الرحمة ليخرجه من عالم المادة والعرق والجنس والجهل، ولينوره بنور العلم والهداية والروح، فكل المؤتمرات والندوات والخطب لا تكفي أن توفيه حقه، أو أن تكون لسانا يذب عنه ورحم الله أحمد شوقي حينما قال في مدحه:

أبا الزهراء قد جاوزت قدري                    بمدحـك بيد أن لي انتســابـــــــــــا

مدحت المالكين فزدت قـدرا                      وحين مدحتـك اقتدت السحابا

فما عرف البــــلاغة ذو بيـان                    إذا لم يتخـــــذك له كتــــــــــابا

وكم أضحكني ما تلقيته قبل أيام أن الحوثي مشغول بهزيمته والتي عبر فيها بخطاب ألقاه على مرتزقته في حفل أعده للمولد النبوي، والمضحك أكثر أن امثال الحوثي أول الناس إسراعا لدعم غلاة التصوف في احتفالات المولد والتي يجدها ملاذا لتسويق خطاباته المستهلكة والتي لا تجد فيها توقيرا لرسول الله أصلا الذي صنع الاحتفال له، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعة أثره ومنهجه يجب أن تكون منهج فكر وأن لا تختزل المحبة بيوم معين يحتفل الناس به، فالغايات النبيلة لو كانت تعبدية فالأصل فيها أنها تكون على منهج السلف.

والحقيقة أن استثمار هذا الحدث لصالح دعوة النبي عليه السلام هو الذي يجب أن تدور عليه الجهود، وتجتمع حوله الأهداف الدينية والوطنية اليوم، فالمصلحون في كل مكان لهم من القبول والمكانة والتقدير بين الناس فكيف برسول الناس جميعا الذي جمع إنسانية الناس فتكاملت فيه عليه السلام. وصدق شوقي حين قال:

المصلحون أصابع جمعت يدا            هي أنت بل أنت اليد البيضاء

والمتابع اليوم للتعاطي الإعلامي المنضبط مع ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنها لا تهدف فقط إلى الانتصار للرسول عليه السلام ولكن شملت معاني كبرى قائمة على الحوار والدعوة والبيان بالخلق والحكمة، وبالتالي فإن أي مؤتمر عالمي اليوم لإحياء سنة النبي وتراثه ومناقبه يجعل للشعوب المتهجمة على النبي والأديان نقطة توقف ونظر وتأمل يجب أن تعاد الحسابات من خلالها والمصالح حتى، وتغربل منها الرؤى الثقافية التي كانت سببا للإهانة، ويعكس لهم من جميع الأبعاد أن المسلمين قوة لا يستهان بها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو مركزها ومحور اهتمامها وتعظيمها.

ولعل تجدد تأريخ ميلاد رسول الأمة والبشرية رسالة محددة مفادها أن الأمم المتحضرة لا تستخدم الفن والغلو في إهانة الأديان والرسل الكرام الذين هم بمثابة رجال الإصلاح من لدن الخالق الذين رفعوا إنسانية الإنسان وقدموها، فهل جعلت الأمة من مولده الكريم ميلادا لإيقاظ الحس والسلم والضمير والخلق والترابط الإسلامي واحترام الآخر؟.