أسامة القحطاني- الوطن السعودية-
دعوى القداسة والعصمة للآراء، ومحاسبة الناس وحمل معاني كلامهم على أسوأ الاحتمالات، وامتحانهم في إيمانهم وتشريع مبدأ التكفير كأنه عبادة مشروعة؛ أسوأ ما نعاني منه اليوم
عند مراقبة الساحة هذه الأيام وتصرفات بعض المتشددين المحسوبين على الإسلاميين تجاه كتابات من يرونهم خصوما؛ نجد أنها تنبني على طريقة متشابهة لتفسير وقراءة الكلام إذا كان لخصومهم، وسأعرض في هذا المقال تطبيقا لطريقة الإنكار والتفسير التي يتبعونها، ولكن هذه المرة سأطبقها على كلام الله تعالى وكلام المصطفى عليه الصلاة والسلام، وسأترك التحليل والتعليق آخر المقال.
ماذا لو أن حاكما مسلما وقع على معاهدة صلح مع دولة محاربة للدين (للدين ذاته)، وكانت هذه المعاهدة تنص على تسليم المسلمين الجدد من تلك الدولة إليها ليقوموا بتعذيبهم، وتعهد بعدم نصرتهم ومعاونتهم، ماذا ستكون ردة فعل موزعي التكفير والزندقة على الناس اليوم؟ ماذا لو عرفنا أن النبي عليه الصلاة والسلام قد وقّع على ذلك في صلح الحديبية! ولو عمل هذا أحد اليوم لكان كافرا بموجب ما يُسمّى بنواقض الإيمان العشر وأنها من مظاهرة المشركين على المسلمين!
ماذا لو قام شخص وشتم وألَّب الناس على المصطفى -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- ثم جاء حاكم مسلم وقال نتركه لئلا يقول الناس إن الإسلام يقتل أصحابه؟ من المؤكد أننا سنسمع حتما تلك الدعوات التي تقول هذا رضا بما يفعل ولن يترددوا في التكفير، وأقل أحوال ردود الغلاة أنه تمييع للدين! بينما نعلم أن هذا ما فعله المصطفى عليه الصلاة والسلام مع عبدالله بن أبيّ عندما قال: (ليُخرجن الأعز منها الأذل)! فلم يُحاسبه النبي عليه الصلاة والسلام ولا غيره من المنافقين، بل تركهم وشأنهم واستمر في دعوة الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك الفكر يرد على الفكر.
أمر أشد شأنا؛ وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُطلق على معين بالتكفير أو النفاق بعد الإسلام مطلقا! ولم يفعله أصحابه أيضا، بل لم يبعث أحدا لهؤلاء لمناصحتهم أو أي شيء من هذا القبيل، ولم يُراقبهم ويمارس عليهم التضييق! ولو كان هذا الأمر في يومنا لسمعنا نفس الكلام أعلاه من اتهامات بالزندقة والكفر ليس على القائل وحسب، وإنما حتى على من سَكت عنه! ولكن لماذا فعل هذا النبي عليه الصلاة والسلام؟
لأنه يعلم أن الله تعالى وحده الموكول بالسرائر ومحاسبة الناس على سرائرهم ومصائرهم وهل خرجوا من الإيمان أم لا، فتركها عليه الصلاة والسلام لئلا يكون قدوة في تتبع عورات الناس وامتحان ضمائرهم ومعاني كلامهم باسم الدين، فالله تعالى وحده من يحاسب.
مثال آخر؛ ماذا لو قال رجل عن انتصار لدولة غير مسلمة في حرب إنه نصر الله؟ سيأتي البعض ويقول كيف تسمي انتصار الكفار بنصر الله! وربما فسروا ذلك بموالاة الكافرين ونحو ذلك، بينما نجد القرآن يسمي انتصار الروم على الفرس بذلك في سورة الروم! وبعض المفسرين قالوا لأن الروم أهل كتاب آنذاك وهو أخف من المجوس، ولكن لو كان هذا العامل الحقيقي لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى الوثنيين في الحبشة! ولبدأ بقتال الوثنيين في أفريقيا وغيرها، ولكنه فقط العداء الذي أظهره الفرس للإسلام.
أذكر عندما كتب بعض المثقفين السعوديين خطابا للمثقفين الأميركيين بعد أحداث سبتمبر المشؤومة؛ جاءت ردة فعل عنيفة من المتشددين آنذاك؛ أن الخطاب فيه تمييع للدين وتنازل للكفار حينها! بينما نجد أن القرآن يقول: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، ولم يتحرج في كلمة (أو في ضلال مبين) لضرورة التنزّل للخصم لأجل النقاش والرغبة في إقناعه وإنقاذه من الضلال، وبغض النظر عن تصنيف الخطاب وأبعاده إلا أن طريقة عسف أفكار الآخرين وتطويع النصوص الدينية على الآخرين حسب رؤية الشخص وهواه من الاعتداء على حق الله تجاه عباده، وفيه تقديس للذات بلا شك، وهو ما نعانيه اليوم من تسلط على الناس.
طاف النبي عليه الصلاة والسلام بالكعبة وهي مليئة بالأصنام ولم يلمس أحدها قبل الفتح، ولو فعلها أحدهم اليوم لقالوا إنك ترضى بالكفر! بينما نشاهد كيف احترم النبي عليه الصلاة والسلام عهده حتى مع المشركين آنذاك.
ما الذي نستفيده من هذه الشواهد (وأترك الكثير منها لضيق المساحة)؟ الحقيقة أنها كلها تدور على أن قصد الإنسان هو الأساس الأول والأخير في تفسير آرائه، وأنه ليس لأحد كائنا من كان الحق بتفسير كلام الآخرين والزعم بأن القصد كذا أو كذا ومحاكمته عليه، خصوصا فيما يتعلق بمسائل الكفر والإيمان، كما أن حمل الكلام على أسوأ معانيه ليس من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام أبدا، ولو شاهدنا بعض المتحمسين اليوم لوجدنا أن طريقتهم هي العكس بتفسير كلام الآخرين على أسوأ معانيه، ولو فُتح لهم المجال لكانت المحاكم مليئة بقضايا الاحتساب ضد كل من كتب مقالا يخالفهم!
الحقيقة أن أجمل ما جاء به الإسلام هو أنه لا قداسة ولا عصمة لأحد من الناس، حتى لكبار الصحابة، فالكل معرض للخطأ، ويؤخذ من كلامه ويرد، بل نلاحظ أن القرآن عاتب النبي عليه الصلاة والسلام في عدة مواضع، من أهمها سورة عبس التي نزلت عتابا للنبي عليه الصلاة والسلام، ما يؤكد مبدأ أن الحق لا يعرف المجاملة ولا التقديس، ونرى اليوم من يزعم القداسة ولو بطريقة غير مباشرة لآرائه، تارة باسم أن هذا قول السلف، ولا أدري كيف استقصى ذلك وأئمة السلف لا يعرفونه! وتارة باسم طاعة العلماء واحترامهم، وهو يعني العلماء الذين يؤيدون مذهبه، وهكذا.
الخلاصة؛ أرجو ألا يُفسر هذا المقال على أنه ميل لطرف ضد طرف، وإنما هو طرح لما أراه الحق والعدل، فإن دعوى القداسة والعصمة للآراء، ومحاسبة الناس وحمل معاني كلامهم على أسوأ الاحتمالات، وامتحان الناس في إيمانهم، وتشريع مبدأ التكفير وكأنه عبادة مشروعة؛ أسوأ ما نعاني منه اليوم.