محمد السعيدي- الوطن السعودية-
القوات التي احتلت بلادا كالهند ومصر والجزائر لم تكن قوات عظيمة العدد، بل كانت بين الثلاثين والأربعين ألفا، ولكن انهيار النفسية المسلمة ببعدها عن دينها واعتناقها الخرافات جعلاها عاجزة عن حماية نفسها
وصل العالم الإسلامي في مطلع العصر الحديث وفي ظل غياب كلي للمنهج السلفي إلى أسوأ أحواله من حيث الانفصام بين العلم الشرعي الذي يتوارثه العلماء وبين العمل والقيام بالدِّين، فكانت صورة الدين الموروث في الكتب تختلف كثيرا عن الدين المعمول به سوى ظواهر من أعمال الجوارح كالصلاة والصوم والحج والزكاة، كادت تكون هي الباقي الوحيد من معالم دين الأمة الموروث عن نبيها، وحتى تلك كان التفريط فيها هو الأصل والأعم الأغلب، بل إن الصوفية الهندية ومن تأثر بها في البلاد الإسلامية كانت تميل إلى شيء من الاستخفاف بعبادات الجوارح تلك، تأثراً بالفلسفة الهندية التي تبنى على عمل الروح وإذابة الجسد فيها.
وظهرت في الهند محاولة لإعادة الأمة إلى دينها، وهي الحركة التجديدية لملك الهند العظيم أورنكزيب المعروف بعالمكير [ت 1118هـ]، لكنها أيضا لم تنجح كثيرا بل ربما سيجد المتتبع أن آثارها انتهت فور وفاة هذا الملك، ولعل من أسباب ذلك كونها أحد آثار الحركة التجديدية للعلامة أحمد السرهندي [ت1034هـ] الذي سُمِّيَ مجدد الهند، والحقيقة أنه جدد الطريقة النقشبندية، وقد اُعتبر عند المؤرخين مجددا للإسلام من خلال تجديد هذه الطريقة، وهو وإن أزال عنها في الهند بدعة وحدة الوجود الكفرية التي ورثها النقشبنديون عن ابن عربي فإن الضلال والخرافة والابتداع ظل في طياتها ولم يوفق الشيخ السرهندي -رحمه الله- ولا الملك أورنكزيب في تحقيق التجديد الحق والخروج بالأمة من ضائقتها.
وقد ظهرت في أنحاء العالم الإسلامي محاولات فردية لإعادة عقيدة السلف للظهور في الأمة كدعوة الشيخ محمد بن سليمان الروداني في مكة [تـ1094هـ] ودعوة الشيخ ولي الله الدهلوي في الهند [تـ1176هـ] إلا أن هذه الدعوات بقيت محدودة التأثير لعوامل عديدة، ولعل منها: أن دعوة الروداني كانت مبنية على تغيير المنكر اعتمادا على المنصب والنفوذ، حيث تولى الشيخ من قبل السلطان العثماني صلاحيات عريضة في الحجاز، ولم تعتمد بشكل كبير على تغيير قناعات العلماء أو الأمراء، بل ولا تغيير قناعات عامة الناس، أما دعوة الدهلوي فاعتمدت على تأسيس مناهج علمية جديدة وإنشاء طبقة من العلماء مؤمنة بالتجديد العلمي والعودة إلى معارف السلف، لكنها تضمنت أيضا عدم مفاصلة مع التصوف بشكل عام، فأبقى الشيخ ولي الله على علاقاته مع أصحاب الطرق محاولا تصحيح الطرقية من داخلها عبر منهج يتضمن الإبقاء عليها، وربما كان هذا شيئا مما أضعف أثرها، إضافة إلى أنها دعوة غير مدعمة سياسيا، فقد وُلد ولي الله الدهلوي في آخر عهد آخر ملوك الهند الأقوياء الذي سنتحدث عنه قريبا، وشهد عهده صراعا بين الهنود المسلمين وبعضهم والمسلمين والديانات الأخرى والسيخ خاصة والمسلمين والإنجليز، فكانت الأجواء السياسية تبني كثيرا من العوائق دون إنجاح هذه الحركة في انتشار التأثير العام.
إلا أن المنهج التعليمي الذي رسمه الشيخ ولي الله كان سببا رئيسا في إنجاح هذه الحركة في البقاء، حيث امتدت في الهند حتى يومنا هذا. فظل العالم الإسلامي على ما ابتُلي به من الانكفاء على الخرافة التي وصل تأثيرها من الضرر إلى أن جعل دولة الإسلام في الهند تسقط تحت الاحتلال البريطاني القادم من بعيد جدا بتأثير شركة تجارية أنشأتها بريطانيا وبعض المعارك الحربية التي لم يكن لمثلها أن تُسقط شعبا وأرضا أعظم عددا ومساحة من بريطانيا بكثير تحت سلطتها [تأسست الشركة الاستعمارية في 1009هـ، وتم انتقال الهند إلى حكم بريطانيا مباشرة 1260هـ].
واستطاعت فرنسا بسبب الانكفاء الشعبي على الخرافة والبعد عن الدين الحق احتلال مصر غرة تاج الدولة العثمانية بمجرد وصولها إلى ثغر الإسكندرية بعد مقاومة يسيرة ثم دخلت إلى القاهرة وأعلنت السيادة على كامل الأراضي المصرية في أيام قلائل [بين يومي 18 محرم و11 صفر 1213هـ] ومعظم المقاومة التي لقيتها مملوكية، وليس للأهالي أو لعلماء الدين والوعاظ شأن يذكر، فعقيدة الجبر والإغراق في الصوفية أودت بهم شيئا كثيرا.
وحين تتأمل أن غزوا بالدواب والعربات من أمة أجنبية الدين واللسان والصقع قادر على أن يُحكَم القبضة على إقليم بحجم مصر في أقل من شهر فإنك لا بد أن تنظر في الأسباب الباطنة في نفوس أهل تلك الأرض، والناتج أن أظهر تلك الأسباب هو انكفاء الأمة بسبب شيوع الاستعباد للعباد عن طريق بدعة الاستغاثة بغير الله وإعطاء الصلاحيات للأولياء والمريدين، وغيرها من البدع التي انتهجت على قلوب وعقول المسلمين حتى جعلتهم مسلوبي الإرادة عظيمي العجز عن التفكير والتدبير.
والغزو الفرنسي لمصر كان الباقعة التي من المفترض أن تحيي القلوب وتستنفر الأبدان، وإلَّا فإن الطوام قد حلت بالمسلمين قبل حلول الكافرين في ديارهم، ألا ترى أن مصر -مثلاً لا حصرا- لم يكن إلا المماليك المجلوبون من أواسط آسيا يتوارثون حكمها وعسكريتها وولاياتها ووظائفها وأموالها وملك عقارها، أما بقية الناس فهم أتباع للحضرات والمقامات ومشايخ الطرق والتكايا ورُواقات المشايخ وزواياهم وخلاويهم، ومن ليسوا من هؤلاء فهم الكادحون الكادون على أمر لقيماتهم ولقيمات أبنائهم.
وبالرغم من كون الحملة الفرنسية قد انقشعت في 3 سنين إلا أن هذا الانقشاع لم يكن بسبب حياة في القلوب ونهضة في العقائد، بدليل أن بريطانيا جاءت من جديد واحتلت مصر بعد معركة التل الكبير التي استغرقت نصف ساعة، وقد أحاطت بها خيانات كثيرة من الحكومة والقادة والأهالي، وكانت نتيجتها سيطرة الإنجليز على مصر والسودان معا [شوال 1299هـ] نعم: كانت المقاومة والتفاعل في شأن الغزو الإنجليزي أشد مما كان عليه في زمن الاحتلال الفرنسي، لكن يبقى أن الأمة كانت ضعيفة غارقة في غياهب الخرافة، وكان هذا الغرق سببا رئيسا في سهولة شقوق الأمة تحت أعدائها، وضعف الدولة الخديوية وعدم قدرة شعبها أو حكامها على حمايتها.
ومثال ثالث لسرعة انهيار البلاد الإسلامية أمام الغزو الأجنبي، احتلال الجزائر التي لم تقف أمام الغزو الفرنسي سوى معارك يسيرة دخلت بعدها مدينة الجزائر سنة 1246هـ. والعجيب أن القوات التي كانت تحتل تلك المساحات الشاسعة كالهند ومصر والجزائر لم تكن قوات عظيمة العدد، بل كانت فيما بين الثلاثين ألفا والأربعين ألفا، ولكن انهيار النفسية المسلمة ببعدها عن دينها واعتناقها تلك الخرافات جعلاها عاجزة عن حماية نفسها.
وهذا الانهيار العجيب كان السبب الرئيس في تقبل العالم الإسلامي الدعوة السلفية التي انتشرت فيما بعد وكانت السبب الرئيس لكل الحركات التحررية من ربقة الاستعمار التي لا تخفى صلتها المباشرة بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وقيام الدولة السعودية.