محمد محفوظ- الرياض السعودية-
قبل أسابيع قليلة ماضية كتبت مقالا في هذه الصفحة عن السعوديين الشيعة وخيارهم الوطني. وقد أثار هذا المقال الكثير من الأسئلة والاستفسارات، وجميع هذه الاستفسارات على نحوين أساسيين وهما النحو الأول: أسئلة واستفسارات تستهدف بالدرجة الأولى زيادة فهم القارئ لطبيعة المجتمع الشيعي وخياراته السياسية، وهي أسئلة تستهدف زيادة الفهم والتفاهم بين شركاء الوطن.
والنحو الآخر أسئلة ذات طبيعة مغايرة للنحو الأول وتحمل رؤية مختلفة عن الرؤية التي قدمها المقال. وتنم هذه الأسئلة عن وجود حالة من الضبابية وعدم الفهم الدقيق لطبيعة التطور الفكري والسياسي الذي يعيشه السعوديون الشيعة.
نحاول في هذا المقال الإجابة عن بعض هذه الأسئلة في سياق موضوعي موحد. هناك مستويان أساسيان لمقاربة موضوع حالة التنوع المذهبي الموجودة في المجتمعات.. المستوى الأول يعمل على مقاربة الموضوع في الإطار اللاهوتي أو المذهبي المحض للجماعات البشرية؛ بحيث يعمل هذا المستوى على مناقشة الموضوع في إطاره العقدي الخاص، وكأنه يقول في دائرة الاختلاف المذهبي، إن المطلوب للرضا عنك أو نيلك حقوقك التي تطالب بها، هو أن تغير أو تزحزح أو تتنازل عن بعض ما هو موجود في بنائك العقدي أو منظوماتك المذهبية. ولكون هذا دونه خرط القتاد كما يقولون لأنه لا يمكن أن تتحقق تحولات عقدية أو فكرية جماعية في سياق الضغط أو المطلب الخارجي؛ لأن الحقائق الفكرية والمذهبية لدى كل الجماعات البشرية هي حقائق عنيدة، ولا تقبل أن تقدم تنازلات فيما تعتقده ضروريا أو ثابتا من ثوابت منظومتها المذهبية.
وهذا المستوى من مقاربة المسألة المذهبية في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لا يفضي إلا إلى المزيد من تمسك كل طرف بما يعتقد به، كما أنه يزيد في حالة الاحتقان المذهبي.
بمعنى أن معالجة الانقسام المذهبي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لا يمكن أن تتحقق أو تنجز على ذات الأرض المذهبية سواء للطرف الأول أو الثاني. أو بتعبير أكثر دقة أن الأرضية المذهبية سواء للطرف الأكثري أو للطرف الأقلي، لا يمكنها أن توفر معالجة حقيقية لحالة الانقسام المذهبي السائدة في مجتمعاتنا اليوم. ومن يبحث عن معالجة فعلية لحالة الانقسام بإطلاق حوار بين مشايخ هذا الطرف أو ذاك، فإنه لن يحصل في سياق النجاح الأقصى لعملية الحوار إلا على التسالم بوقف النزاع أو التوتر الدائم بين أتباع المذاهب الموجودة في المجتمع.
لهذا فإننا نعتقد أن الانقسامات المذهبية في المجتمعات المعاصرة، لا يمكن أن تعالج إلا في سياق مؤسسة الدولة، بحيث تكون على مسافة واحدة من كل الافرقاء، وتصيغ قانونا ثابتا يضمن خصوصيات الجميع وعلاقتهم الإيجابية في سياق متحد اجتماعي/وطني منضبط بضوابط القانون الموحد الذي يطبق على الجميع، ويسهر على ضمان حق المواطنة المتساوية.
لهذا فإن المقاربة المذهبية البحتة، لموضوع الانقسام المذهبي، غير قادرة على معالجة هذا الانقسام من جذوره، وإن أقصى ما تتمكن من تحقيقه هو تبريد الانقسام وإدارته برهان المناقبيات الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الجميع. وهذا يمكن أن يتحقق في عالم الأفراد، أما عالم الجماعات والمجتمعات، لا يمكن أن تنضبط إلا بمؤسسات الدولة التي تعمل على قاعدة قانونية تستهدف جعل الانتماء الوطني هو معيار الحقوق والواجبات.
وفي مقابل هذا المستوى في مقاربة المسألة المذهبية، ثمة مقاربة أخرى نتبناها ونعتبرها إذا أحسنا الالتزام ببنودها قادرة على معالجة الانقسام المذهبي الموجود في مجتمعاتنا، وجوهر هذه المقاربة هو الانتقال من المستوى العقدي اللاهوتي إلى المستوى الاجتماعي - الثقافي السياسي.. بمعنى أننا نتعامل مع حالة التمذهب ليس بعنوان المنظومة العقدية أو المذهبية، وإنما بعنوان أنها تشكل مجموعة بشرية ذات خصائص ثقافية محددة، أي لا يتم الدخول في جدل مذهبي تفصيلي بوصفه مدخل معالجة المشكلات أو الحقوق أو الثقة بهذه المجموعة بفعل متبنياتها المذهبية الخاصة، وإنما نقل الموضوع إلى الدائرة الأخرى، التي تقارب الموضوع في الدائرة الاجتماعية الوطنية.
فالشيعة في المملكة العربية السعودية، لا يمكن فهم مسألتهم الحقيقية إلا في سياق التعامل معهم بوصفهم جماعة وطنية ذات خصائص ثقافية محددة، لا تمنعهم من الانفتاح والتواصل مع المكونات الوطنية الأخرى، ولا تمنعهم هذه الخصائص من الوفاء بكل متطلبات المواطنة الحقيقية.
وإن الانتماء إلى دائرة مذهبية محددة، لا يحول دون التفاعل التام مع كل متطلبات انتمائهم الوطني في أبعاده المختلفة. فالانتماء المذهبي ليس بديلا عن الانتماء الوطني، ولا يمكن لأي مجموعة بشرية أن تعيش فقط من خلال إشباع دائرة انتماءاتهما المذهبية، فهي بحاجة إلى انتمائها الوطني، ولا يمكن المقايضة بين هذه الانتماءات. فكل جماعة بشرية تعتز بانتمائها الثقافي المذهبي، كما تعتز بانتمائها الوطني، ويتحمل الجميع - أي جميع الأطراف - المشاركة في الدائرة الوطنية في بناء توافق عميق بين الانتماءين؛ بحيث لا تكون هناك حالة تضاد بين هذا الانتماء أو ذاك.
من هنا فإنني أدعو جميع المشتغلين بهموم الانقسام المذهبي في مجتمعاتنا، إلى الالتفات إلى أهمية أن نقارب هذه المسألة بعيدا عن حالة الجدل المذهبي البحت، التي لا تعالج المشكلات الحقيقية، بل تزيدها تعقيدا وارتباكا.
وإننا بحاجة إلى مؤسسات الدولة المختلفة لمعالجة كل حالات الانقسام الأفقية والعمودية الموجودة في مجتمعاتنا. وحادثة الأحساء الأليمة أكدت بشكل لا لبس فيه عن استعداد الشيعة السعوديين النفسي والعملي للانسجام التام مع شركائهم في الوطن.
وسجلت النخبة الدينية والاجتماعية للشيعة موقفا رائعا، حيث تعالت على الجراح، وانسجمت مع رؤية واستراتيجية الدولة في التعامل مع الحادثة الأليمة وآثارها المختلفة.
وأرى أن اللحظة مؤاتية في ظل هذه الظروف، للقيام بمبادرة تستهدف تطوير حالة الاندماج الوطني بين مختلف المكونات، بعيدا عن النزعات المذهبية المقيتة.
وفي سياق ضرورة الخروج من حالة الانقسام المذهبي والطائفي الحاد، التي تشهدها المنطقة، ثمة ضرورة للعمل على حماية وطننا وتعزيز انسجامه الوطني، حتى نتمكن جميعا من حماية وطننا من كل المخاطر المحدقة. وفي هذا الإطار لابد من التأكيد على النقاط التالية:
ليس شرطا لوطنية أي مواطن، أن يشترك مع بقية المواطنين في الانتماء المذهبي؛ لأننا نجد في جميع المجتمعات حالة التنوع الأفقي والعمودي، وهذا التنوع بكل مستلزماته، ليس مانعا أو كابحا من إنجاز مفهوم المواطنة. ولعل من أهم الإشكاليات التي نواجهها في المجتمع السعودي، هي خلق حالة من المساوقة بين الانتماء المذهبي، والانتماء الوطني؛ لأن هذه المساوقة تفضي إلى بروز حالة من التوترات المذهبية التي لا تنفع مؤسسة الدولة في أي شيء، كما أنها تضر بحقيقة الاستقرار الاجتماعي. فمن حق أي مواطن أن ينتمي مذهبيا لأي مدرسة فقهية أو عقدية، ولا يحق لأي أحد أن يجعل من هذا الحق بالانتماء حائلا ومانعا دون حقوقه كمواطن بصرف النظر عن قناعاته المذهبية أو الدينية.
ثمة نقاش محموم وإثارة للكثير من الشبهات مع كل حدث أو انعطافة سياسية أو اجتماعية كبرى سواء على مستوى الداخل الوطني أو في دول المحيط والفضاء الإسلامي. ولعل النقطة المركزية في هذا النقاش وتوابعه حول ولاء الشيعة في المملكة هل هو لوطنهم أم لدولة مذهبية بجوارهم وهي إيران.
ونحن هنا لا نريد أن نقارن بين الأطراف الوطنية، ومدى التزام كل طرف بمقتضيات الوطنية وهل هو يقدم انتماءه الوطني على بقية الانتماءات، ولكننا نوضح أن باعث هذه الشبهة هو التعامل مع حقيقة الانتماء لأي دائرة من دوائر الانتماء وكأنها مساوقة ومترادفة لحقيقة الولاء السياسي والوطني. مع العلم ثمة فروق جوهرية بين الانتماء والولاء. فغالب أشكال الانتماء لدى الإنسان لا كسب له فيها، فهو ينتمي إلى عائلة أو عشيرة أو قبيلة أو مذهب أو دين لا كسب حقيقيا له في هذه الانتماءات. فهو لكونه مولودا لأبوين مسلمين أصبح مسلما شيعيا أو سنيا. وهكذا بقية دوائر الانتماء. أما حالة الولاء فهي نتاج كسب الإنسان وقراره وقصده الواعي. وعلى ضوء هذه الحقيقة نقول: إن الشيعة في المملكة كغيرهم، يعتزون بانتمائهم المذهبي، كما أنهم في ذات الوقت يعتزون بولائهم الوطني، وليس ثمة مفارقة بين الانتماء المذهبي والولاء الوطني، ووجود دول ومجتمعات شيعية في الجوار، لا يعني أن ولاء شيعة الوطن إلى مجتمعات الجوار، لأن مصلحة الشيعة بكل ما تعني مقولة المصلحة، هي في انتمائهم وولائهم الوطني. ولا يمكن التضحية بمصالح الوطن، لصالح أي مجموعة بشرية أخرى مهما كانت عناصر الاشتراك معها.
ومن الضروري في هذا السياق أيضا، الالتفات إلى هذه المسألة، وهي حينما يختلف وطننا أو حكومتنا سياسيا مع أي طرف شيعي في المحيط، المطلوب دائما عدم الخلط بين الاختلاف السياسي والاستراتيجي، وبين التشنيع على المذهب الشيعي. لذلك نحن مطالبون لكي نعالج بصدق جدلية الانتماء والولاء، إلى تحييد المذاهب والمدارس الفقهية من ظاهرة الاختلافات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية.
لأن عملية الخلط هي التي تفضي إلى حالة من الاحتقان الطائفي والتوتر المذهبي، لأن إدارة الاختلاف السياسي استخدمت فيها الأدوات المذهبية، التي تلامس مشاعر مكون أصيل من مكونات الوطن.
الشيعة في المملكة مكون أصيل من مكونات المجتمع السعودي، ويعتزون كغيرهم من أبناء الوطن، بوطنهم، ويتطلعون إلى أن تسود العلاقة الإيجابية والمستقرة مع شركائهم في الوطن. وهم في هذا لا يزايدون على أحد، ويرفضون في ذات الوقت أن يزايد عليهم أحد.
فالوطن لنا جميعا، ومن واجبنا جميعا أن نحمي وندافع عن هذا الوطن بكل الإمكانات والطاقات.
فتعالوا جميعا نخرج من خنادقنا المذهبية، ونحمي وطننا من كل المخاطر يدا بيد وكتفا بكتف.