محمد الرميحي- الشرق الاوسط الكوينية-
الكتابة في هذا الموضوع كالمشي على حبل مشدود٬ الخوف من الوقوع في التفسير الخاطئ قائم. هناك عادة ثلاثة أنواع من القراء للموضوعات الخلافية٬ نوع يوافقك حين يحلو له الموضوع٬ ونوع يعارضك لأنه يعتنق قناعات مضادة٬ والنوع الثالث يريد أن يعرف أكثر ما يمكن من الحقائق٬ كي يتخذ قرار الموافقة أو المعارضة. هذا المقال يكتب لتك الفئة الثالثة.
القضية الأكبر هي التدخل الإيراني في شؤون العرب٬ الذي أصبح الآن هاجسا يطرق عقول وقلوب كثيرين كل صباح٬ ليس على المستوى النظري ولكن العملياتي أيضا. هذا التدخل قائم على افتراض غير واقعي أن إيران مكلفة بشؤون جميع الشيعة في أي وطن هم فيه٬ وتحت أي ظرف اقتصادي/ اجتماعي يظللهم٬ وخصوصا العرب منهم! تجليات مختلفة تنبع من هذا الافتراض٬ منها تحقيق أهداف سياسية إيرانية٬ بالاستعانة بعدد من العرب الشيعة٬ لفصلهم المعنوي عن أوطانهم٬ ثم إلحاقهم بالمشروع السياسي الإيراني٬ وعلى وجه التحديد استهدافا لإقامة حكم «ولاية الفقيه» بصرف النظر عن الواقع الموضوعي للمجتمع الذي يعيشون فيه.
الملف ليس سهلا٬ وهو متخم بكثير من التفاصيل٬ وبعضه يلازمه الحرج٬ فكثيرون وأنا منهم لا يستسيغون الكتابة أو مناقشة موضوع له علاقة بـ«الطائفة» عن قناعة أن الولاء الوطني عابر لكل انتماء٬ وأن ليس كل الشيعة راغبون أو قابلون بالإلحاق٬ وما العلاقة المذهبية٬ أو العرقية٬ إلا علاقة روحية من حق البعض أن يستنسبها بالطريقة التي تريحهم٬ دون الإضرار بالنسيج الاجتماعي الذي يشكلون مع آخرين قماشته الوطنية٬ ولكن في بعض الأوقات يجبر الكاتب على أن يتناول الموضوع لأن تركه في أيٍد ترغب في التسييس والتوظيف يخلف جروحا لا تندمل في الجسم الوطني ويضخم الهواجس.
ما أريد أن أناقشه هو ظاهرة قد تشكل بعضا من الملف الكبير٬ وهي امتناع عدد من المواطنين الشيعة من أعضاء المجلس التشريعي الكويتي عن حضور الجلسات الأكثر حساسية في الأسبوع قبل الماضي٬ على خلفية اختلطت فيها الأسباب المعلنة من الاحتجاج على أحكام صدرت من محكمة قانونية ضد أفراد ما عرف إعلاميا بـ«خلية العبدلي» مع ملف آخر صادف أن طرحته إدارة المجلس للنقاش٬ وهو «الاعتداء على مبنى السفارة السعودية في طهران». مجمل الفعل الظاهر الامتناع٬ أيا كانت الأسباب خلفه٬ والتكتل المشترك الوحيد بينهم جميعا هو «المذهب». وهو موقف بدا لكثيرين أنه يزيد من وتيرة الارتياب الاجتماعي لدى قطاع واسع من المواطنين٬ كما يرفع وتيرة الارتباك السياسي٬ ويفتح بابا يسعى كثيرون لغلقه وهو التذرر والتجزؤ المجتمعي٬ لأن خلط السياسي بالمذهبي مدخل شرور للمجتمع بأسره.
من جهة أخرى فإن الطائفة الشيعية الكريمة٬ أو قلُنَخبها٬ في الكويت قد توزعت تجاه ذلك السلوك ومسبباته٬ على الأقل إلى ثلاثة توجهات٬ ليس بالضرورة متساوية٬ الأولى مجاهرة بإدانة الموقف «التساعي»٬ إذ إنه لا يجب على المشرعين الاحتجاج على حكم محكمة قانونية٬ وأن ذلك مخل بجوهر عملهم٬ والظهور بالدفاع عن مدانين من محكمة قاموا بفعل يعاقب عليه القانون٬ وما زالت إجراءات محاكمتهم لم تنتِه٬ والثانية مجموعة قابلة للحكم٬ ولكنها تحذر من التعميم على الطائفة ككل٬ وهو موقف محق٬ أما الثالثة فهي في جوهرها رافضة للأحكام٬ كما هي رافضة لإدانة السلوك الخارج عن القواعد الدولية في حرق مبنى سفارة المملكة العربية السعودية في طهران٬ بالغة الانحياز٬ تخلط بشكل غير صحي بين المذهب والسياسة٬ وربما اعتقد الأعضاء التسعة أن هناك «أغلبية صامتة» في جمهورهم٬ فاستجابوا بامتناعهم لتلك المجموعة٬ بسبب ذلك التقدير المفترض! وهو أمر يقوم على افتراض مقلق جدا٬ أن الدولة ليست من خلال أحكامها عادلة٬ مما يترك شرخا يحول التنافس السياسي إلى صدام مجتمعي.
السلوك ذاته٬ علم أصحابه أو لم يعلموا٬ صب وقودا على أفكار المتشددين في الطرف الآخر٬ الذين أكدوا مرة أخرى أنه «دليل على عدم الولاء للوطن وخروج صارخ على الدستور»٬ وهو القاسم المشترك للإرادة المجتمعية. هناك قلق شديد من ذلك الموقف لدى قطاع ينتمي إلى اجتهادات سياسية متعددة من النسيج الوطني الكويتي٬ لأسباب أولها أن عدم احترام الحكم القضائي يشكل ظاهرة تخل بمبدأ أصيل٬ والذي من المفروض أن أول من يحرص على احترامه هم
المشرعون. ثانيا أن البلاد تحوطها مرجعية متفق عليها ووجودهم في أماكنهم جزء منها٬ وهي الدستور الكويتي الجامع للهوية الوطنية والقيم المشتركة٬ الذي أقسم الجميع على احترامه وتنفيذ نصوصه٬ ومنها احترام استقلالية القضاء وتنزيه قراراته عن التسييس. وثالثا أن الدولة بجهازها تتعامل مع المواطنين كمواطنين سواسية٬ لأن مثل هذه الأحكام قد صدرت على مذنبين وتطبق على الخارجين على القانون بشكل لا ينحاز إلى فئة أو يجامل أخرى٬ ومساواة الخروج على الوطن بالسلاح مع عوار في بعض السياسات العامة٬ إن وجدت٬ هي خلطة مسمومة تؤدى إلى خلل في الجذور لا الفروع.
اشتم البعض من موقف التسعة أن هناك فريقا في الوطن يؤيد أن تمتلك مجموعة من المواطنين السلاح٬ والملكية هنا قد تقود إلى استخدام هذا السلاح ضد المؤسسات القائمة٬ أي أن يكون هناك فريق مسلح خارج سلاح الدولة المنظم ومتصل بدول أو جماعات خارجية٬ ذلك يضع أمن البلاد والعباد على حافة الخطر. سيناريو يثير القشعريرة لدى كثيرين٬ خصوصا إن تم الدفاع عنه من خلف حاجز الطوائف ومن نواب يفترض أنهم ممثلون للأمة يدرون كل ما يهدد كيان الدولة٬ ويذكر هذا الموقف الناس بدول فاشلة مثل لبنان٬ لما استقوى فريق مسلح على مقدرات المجتمع٬ وتحكم حتى العظم في مسيرته وسيطر على قراره السياسي من خلال ذراع سياسية هي «الثلث المعطل»! فإن القشعريرة تتحول إلى خوف حقيقي٬ بل رعب مقيم. كان عقلاء الطائفة الشيعية الكريمة يحذرون من مغبة «تصلب العضلة الشيعية» كما عبر عنها هاني فحص ذات مرة٬ ذلك يؤدي إلى نزيف صراعي في إطار الجماعة الوطنية العربية٬ وله تداعيات قد تنتهي إلى الإخلال المرضي بالسلم الاجتماعي٬ وقد تنشئ نزاعات وإفراطا في الكراهية لا يتحملها مجتمع صغير كالكويت.
السؤال هو: ماذا يقدم النظام الإيراني للشيعة العرب؟ يتحدث كثيرون من القائمين على منابره عن موضوعين٬ الأول فلسطين٬ وحتى الآن بصرف النظر عن التفاصيل لم يتحرر شبر واحد منها٬ ثم يتحدثون عن «ديمقراطية» ومرشحوهم على كل المستويات تمّر أسماؤهم على أكثر من جهاز أمني للتصفيات والاختيارات. لن أتحدث عن الوضع الاقتصادي أو الحريات العامة والشخصية أو سيادة القانون٬ فذلك أمر أصبح معروفا٬ مع كل ذلك فإن قطاعا واسعا من العرب يرى العلاقة مع إيران يجب تكون «عادية» لأن حتمية الصيرورة الإيرانية هي متروكة كليا للشعوب الإيرانية. عقلا٬ لا يتاح في عصر العولمة وسيادة القانون الدولي أن تمتد يد خارجية تحت أية ذريعة للتدخل في شؤون بلاد أخرى.
صيغة العراق ولبنان واليمن وحتى سوريا صيغة فرضتها ظروف فشل الإدارة هناك٬ كل من جهته٬ بالتفريط في بناء مجتمع تكافلي. الصورة في دول الخليج مختلفة٬ بل معاكسة٬ فهي تتمتع ببناء اجتماعي متكافل٬ يقلل حتما من صراع الهويات٬ فنقل التجربة لا طائل منه ومغامرة أولا على الطائفة الكريمة٬ وثانيا على الدولة التي هي دولة للجميع لا للبعض.
آخر الكلام:
الثقب في السفينة يعني غرق الركاب جميعهم٬ لا بعضهم فقط!