سليمان الضحيان- مكة نيوز السعودية-
في سنة من السنوات الماضية وفد أحد الدعاة السعوديين على إحدى المدن الأوروبية ليؤم المسلمين فيها في شهر رمضان، ويخطب فيهم أيام الجمع، ويلقى بعض الدروس والمحاضرات الدينية، فكان مما قرره في خطبه ودروسه أن وجه المرأة عورة، يجب عليها ستره، ويحرم عليها كشفه، فأحدث كلامه ردة فعل قوية في أوساط الجالية الإسلامية في تلك المدينة، وتصاعد الأمر حتى اضطر ذلك الداعية لمغادرة البلد قبل إنهاء مهمته.
وفي أحد المؤتمرات التي أقامتها إحدى الجامعات في المملكة المغربية كان بين الحضور أستاذ جامعي من السنغال فجرى بيني وبينه حديث مطول، كان منه أنه يعتب كثيرا على الخطاب الديني الذي يمارسه الدعاة السعوديون في السنغال، فهم ـ حسب كلامه - يكادون يعاملون المسلمين عندنا على أنهم ليسوا على شيء من الإسلام، وأن خطابهم يصورهم على أنهم جاؤوا إلينا لينتشلونا من بحور الضلال والضياع والباطل إلى الدين الصحيح والعقيدة الحقة، ويعيبون علينا طرقنا الصوفية، وممارساتنا الدينية من ابتهالات دينية جماعية، وتلاوة أوراد دينية جماعية، مع أن فقهاءنا يرون حلَّ هذا كله، ويصمون بعض عوائدنا الاجتماعية بالفساد، وغالبا ما يتركون أثرا يثير الشقاق، والخلاف، والتحزب، وظاهرة التبديع.
وقبل عقد ونصف تقريبا كانت إحدى المؤسسات الدعوية السعودية التي تنشط في دولة أذربيجان توزع على المسلمات هناك قفازات سوداء؛ ليسترن أيديهن عن الرجال الأجانب، في بلد لا تكاد نساؤه يعرفن الحجاب.
هذه الصور التي كنت على تماس مباشر مع من حضر، وشاهد أحداثها، لا تعني أن هذه هي الصورة الكاملة لواقع الخطاب الديني السعودي في الخارج، فثمة صور، ونماذج، وتجارب رائعة، خاصة أن بعضا من تلك الصور التي كنت على تماس معها قديمة العهد، وأجزم أنه جرى تلافي بعضها، لكن مع تلافي بعض الممارسات إلا أن الخطاب الديني السعودي في الخارج بقيت فيه بعض السمات التي تعوق عن الهدف المنشود منه، وتعطي صورة غير إيجابية عن الفكر الديني في السعودية.
وأختصر تلك السمات غير الإيجابية بثلاث سمات، السمة الأولى: سمة الاستعلاء، فالخطاب في أسلوبه، وطريقة عرضه، وتصرفات دعاته، يوحي بنظرة استعلائية تجاه واقع تلك المجتمعات، فالداعية السعودي يأتي لتلك المجتمعات وهو يبشر بـ(العقيدة الصحيحة)، وبـ(الدين النقي)، وبـ(الآراء الفقهية المؤيدة بالدليل الصحيح)، ومع الإقرار بأن كل داعية لأي فكرة ـ مهما كانت ـ يرى أنها هي الصحيحة، إلا أن ظهور أثر ذلك في حواراته، وطرحه، وتصرفاته، يبعث برسالة سلبية جدا للطرف الآخر، فضلا عن أن مثل هذا الاستعلاء يتسرب للمتأثرين بالخطاب من أهل تلك المجتمعات، مما يحملهم على تكوين تيار ديني منفصل عن بقية تيارات البلد، يشعر بفوقية تجاه بقية الخطابات الدينية الموجودة في ذلك البلد، وهذا مدعاة للشقاق والخلاف والتحزب الديني.
السمة الثانية: عدم مراعاة واقع تلك المجتمعات بما فيها من عادات، وتقاليد، ومواضعات اجتماعية، واختيارات فقهية وعقدية مبنية على خطاب ديني مستوطن في تلك المجتمعات، ومحاولة تجاوز ذلك كله، والتبشير بخطاب ديني جديد، مما يوحي للآخرين ـ خاصة المعنين بالشأن الديني في تلك المجتمعات ـ بأن ما يتم أشبه بالغزو الديني، وقديما رفض الإمام مالك أن يحمل الخليفة أبوجعفر المنصور الناس على مذهبه، وطلب منه ترك الناس على مذاهبهم وما وصل إليهم من العلم، ومع الإقرار بوجود ممارسات دينية في تلك المجتمعات قد تكون أقرب للخرافة إلا أن فقه الأولويات يحتم مراعاة واقع البلد، ومواضعاته، وتوجهاته الدينية، وأعرافه، وعدم طرح ما يؤدي للاصطدام بذلك كله.
السمة الثالثة: وهي الاهتمام بالجزئيات الدينية، فيستغرق الخطاب في تفصيلات دينية، وهذا الاستغراق غالبا ينتج عقليات مسكونة بتتبع الجزيئات الصغيرة، والبحث عن الحكم الديني لها، وهذا ما ينتج عنه عنت كبير لتلك المجتمعات غير المحافظة مما يؤدي لتأزم بين أفرادها، والمفترض بمن يوفد للدعوة في تلك المجتمعات أن يكون مجال دعوته المجمع عليه بين المسلمين كأركان الإسلام، وحرمة الكبائر، ولا ينخرط في حمل أهل تلك المجتمعات على ما يراه صحيحا من تفصيلات دينية، وجزيئات الأحكام، مما هو ليس من أصول الدين المجمع عليها.
الدعوة الدينية الرسمية في الخارج مع هدفها الديني النبيل إلا أنه بالإضافة إلى ذلك تمثل قوة ناعمة للمملكة، والقوة الناعمة تسعى لكسب المجتمعات، ولا يتأتى هذا في الخطاب الديني إلا بالتخلص من السمات السلبية التي قد تعوق فاعليته وتأثيره.