حسن المصطفى- الرياض السعودية-
يعتقد الفيلسوف الفرنسي جورج غيسدورف أن "العنف" هو "نفاد الصبر في العلاقة مع الغير، حيث يفقد الأمل في مواجهة عقل لعقل، فيتم اختيار أقصر وسيلة من أجل فرض الإذعان".
هذا النفاد للصبر هو في لبه سلوك غرائزي، له بعد نفسي وآخر بيولوجي. وبالتالي، هو تغليب لعوامل أساسية مكونة لذات الإنسان على عوامل أخرى، ما يقود لنتيجة بسيطة وواضحة وهي "تعطيل العقل".
فالإنسان العنيف أو الإرهابي، يفضل استخدام القوة وإبادة الآخر، على الدخول في نقاش أو سجال أو حوار منطقي معه. أولا، لعدم إيمانه بأسبقية العقل على سواه من الأدوات، وثانيا، لعدم قدرته على المحاججة أو الدخول في عملية تقود لتنازل ما، أو تخل عن يقينيات مطلقة، هي بالنسبة له بمثابة "المقدس".
إن ما قام به الإرهابيون في هجومهم على مسجد الإمام الرضا في الأحساء، إنما هي محاولة "من أجل فرض الإذعان" كما قال غيسدورف. وهو الإذعان الذي يتعدى المصلين المتواجدين في المسجد، إلى جميع من يصلهم بقرابة نسب، أو جيرة، أو مذهب.
لو قرأنا المشهد في معناه الأعمق، وخصوصا ما ورائيات خطاب وسلوك الجماعات الأصولية، سنجد أن "العنف المتطرف لا يتجلى في تعويض إمكانية الكلام بالموت، بل إنه يكمن في تحطيم حاجز، وفي وجود فاصل ضروري بين التكلم والقتل"، كما يقول د.فتحي بن سلامة، في مقاربة تسعى لتحليل هذه الدافعية التي تقتحم خصوصية الغير، وتلغي هذا الفاصل الضروري بين الوجود والعدم، بين التواصل والقطيعة، بين المشاركة والتفرد.
هذا الإصرار من القتلة على عدم الحوار، له أسبابه الاجتماعية والثقافية والدينية، التي تجعل "الكلام" أمرا غير متخيل، وهي تعود في أحد أهم أسبابها إلى ثقافة ازدراء الآخر وتدنيسه، والنظر إليها بوصفه وجودا شيطانيا، يمثل بقعة سوداء في بياض الطهرانية التي يدعي القتلة امتلاكها.
هذه الصورة "المدنسة" للضحية، رسمتها تعاليم صارمة، تجعل الابتسامة في وجه المختلف أو التعامل معه أو الرأفة به، خطيئة، وسلوكا مخالفا للكتاب والسنة، كما يتوهم "المحرضون"، ضمن منظومة فقه متوحش، بنيت في أساسها على مواقف عنصرية وطائفية، معتقدة أن الإسلام حكر على قراءتها وسرديتها الوحيدة!.
هذه السردية، يمثل "التكفير" حجر الزاوية فيها، والمبرر لكل هذا الكم من العمليات الإرهابية. فمن تم قتلهم في مسجد الإمام الرضا وقبلهم في القديح وسيهات والدمام، قتلوا لأنهم ينتمون لمذهب خارج عن الإسلام بنظر فقهاء الدم. والمصلون في مسجد الطوارئ، والجنود الذين استهدفتهم "داعش" ومن قبلهم "القاعدة" قتلوا لأنهم ارتكبوا ما يناقض "إسلامهم"، ومسجد "مشهد علي" في نجران، استهدف المصلون فيه لأنهم ينتمون لمذهب مختلف، وجميعها مسميات وذرائع رتيبة وبليدة وفاقدة للمتانة العلمية، يستخدمها التكفيريون لتبرير عمليات القتل والاغتيال التي يحرضون عليها.
إن التكفير سلوك فيه تعد على الفرد، وعلى الجماعة البشرية، ويشكل خطرا حقيقيا على السلم الاجتماعي. هذا فضلا عن كونه عملا مخالفا للقوانين والأنظمة التي أنشئت عليها الدولة الحديثة، وبني عليها مفهوم التعاقد الاجتماعي.
هذا التكفير الذي يؤسس للإرهاب، هو فعل يعتقد أصحابه أنه يقوم على اليقين الصافي، وهو يقين "أخطر من الكذب في عداوته للحقيقة"، كما يقول نيتشه.
الحقيقة تقول: الأحساء محافظة تحتضن جميع الطوائف الإسلامية، سنة وشيعة، وتضم المذاهب السنية بمدارسها المختلفة: حنابلة، شافعية، مالكية، أحناف. وتحتضن المدارس الفقهية الشيعية بتنوع اجتهاداتها. وهي بذلك تمثل بيئة متعددة بثقافاتها وناسها وبتعايشها المشترك الذي امتد مئات السنوات. وهو التعايش الذي يسعى الإرهابيون لضربه، وسلاحهم المسلول هو "التكفير"، فهل من العقل أن نبقيه سيفا في أيديهم، يمزقون به نسيج المجتمع، ويلغون به تعدديته؟!.