د. محمد عبدالله العوين- الجزيرة السعودية-
قد نصاب بالحيرة في فهم بعض الشخصيات التي تجيد مهارة التلّون وتقمص الأدوار المختلفة المتابينة؛ حيناً بالظهور بمسوح الأتقياء والصالحين المنتمين لدينهم وعروبتهم والخائفين القلقين عليها من أعدائها المتربصين بها شرقاً أو غرباً والذائدين عن حياض أوطانهم والذين يحترقون في سبيل استعادة العرب والمسلمين عزتهم وكرامتهم وأمجادهم؛ لكننا نجد -حيناً آخر- تلك الشخصيات تقلب ظهر المجن وتظهر لنا تلك الصفحة البيضاء الناصعة صفحة أخرى كالحة مشوهة قميئة مليئة بالخيالات السوداء وصور الأشرار الذين تمجّدهم وتعلي من شأنهم وتسعى إلى إبرازهم أمام القراء والمشاهدين قادة للحق مدافعين عن شرف الأمة باذلين كل ما يستطيعون من جهد ومال وحكمة وحنكة وضمير يقظ لنصرة قضايا العرب والوقوف في وجه الصهيونية العالمية وقوى الاستكبار وإمبراطوريات الهيمنة الدولية الجديدة التي تشكّلت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والبدء في تنفيذ إعادة رسم حدود الخرائط السياسية والجغرافية في ممالك دول الاستعمار القديم؛ بما فيها منطقة الشرق الأوسط.
لنأتِ الآن إلى إحدى تلك الشخصيات الموهوبة المحيرة التي تملك قدرات تمثيلية هائلة بالصوت والصورة، وتعابير الوجه، وملامح الحزن أو الفرح، وبالقلم والبحث والتأليف، شخصية صحافية موهوبة بالفعل حديثاً وكتابة وتملك مقدرة عالية على الظهور المزيف بمستوى عال من الانتماء للعروبة وللأمة من أجل التسويق والحضور الإعلامي؛ لإغلاء ثمن السلعة «الموقف» الذي غدا بضاعة تعرض في المزاد الإعلامي المفتوح القابل للارتفاع المستمر والضغط المستمر أيضاً على الطرف الآخر الخصم المستهدف بالحملات، وذلك من أجل مزيد من التخويف بمواصلة التحشيد الإعلامي؛ للحصول على مزيد من مغانم التسكيت وشراء اللسان والقلم.
هكذا يبدو الصحفي المهموم بقضايا أمته العربية القلق عليها من الذوبان والتلاشي - كما يود أن يبدو - عبد الباري عطوان في حضوره الإعلامي الواسع على شاشات المحطات العربية وغير العربية، وعبر صحيفته الإلكترونية «رأي اليوم» التي جاءت بديلاً لصحيفة « القدس العربي» الورقية بعد أن انفضت شراكة المكاسب وانتهى عقد الشراء له من الجهات التي كانت تموله للهجوم على المملكة والتهويش على مواقفها وإثارة اللغط على مبادراتها السياسية وتهويل قوة أعدائها الذين هم أعداء العرب والمسلمين؛ بدءا من القاعدة في بدايات قوتها قبل عشرين عاماً إلى داعش التي يسميها «الدولة الإسلامية» إلى إيران إلى النظام السوري وأخيراً إلى روسيا التي لا يرى ولا يبصر ما تفعله من قتل وتدمير وتهجير للشعب السوري الذي يزعم الدفاع عنه، لقد انتهى الدعم المالي الذي كان يصب في خزينته وخزينة صحيفة القدس العربي بمئات الآلاف من الدولارات بعد أن انتهى أحد راعيي ذلك الدعم في إحدى عبارات تصريف السيول بثورة شعبية عارمة، وتوقف الممولين الآخرين؛ إثر اكتشاف تمويلهم له ولغيره ممن خانوا وطنهم واحتضنتهم لندن ومواجهتها بالحقيقة المرة التي تخالف روابط العروبة والإخاء.
لقد دأب عبد الباري عطوان مذ كان رئيساً لتحرير «القدس العربي» التي لا تنشر إعلاناً واحداً يحتمل جزءاً ولو يسيراً من تكاليف المقر وإدارة التحرير والكتاب والمراسلين والطباعة والتسويق وغيرها؛ دأب على انتهاج خط تحريري جمع في تلك المرحلة الكتاب والمحررين ذوي التوجه المعادي للأمة من المرتزقة في عدد من الدول العربية التي عانت من تسلّط الأنظمة العسكرية أو الفشل التنموي، من أولئك الذين مزجوا بين خيبات الواقع العربي واضطهاد أنظمتهم لهم وذهبوا يحمّلون دول الخليج العربية الغنية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ظلماً وافتراءً ما يشعرون به من إحباطات وما يختلج في نفوسهم من خيبات. وكثيرون من أولئك الكتاب الذين احتضنتهم صفحات القدس العربي إما تائهون في عواصم الغرب ومقاهيها ولياليها وأزقتها الخلفية كالمشردين يقتاتون من نظم الرعاية السياسية أو من مصالح يسيرة متقطعة لا تكفل لهم حياة كريمة، أو ممن يتطلعون إلى بضعة دولارات تدفعها لهم الصحيفة الممولة تساعدهم على العيش في دولهم التي تعاني من تردي الأوضاع المعيشية.
إننا لا نفسر تلك الحملات الصحفية على بلادنا من كتاب القدس العربي في مرحلة عطوان وكتاب رأي اليوم الإلكترونية التي يديرها الآن بالمواقف المحتقنة القديمة التي عاشها عبد الباري إثر إنهاء عقده من صحيفة الشرق الأوسط بعد خلاف مع إدارة تحريرها؛ لا نفسر مواقفه العدائية المحتقنة المأزومة بتلك الأسباب الواهية الضعيفة التي قد يكون نسيها وتلاشت بمرور الزمن باعتبار أنها مواقف شخصية من المؤسسة الصحفية -آنذاك- ولذا فهي لا تعبر عن الدوافع الحقيقية الكبيرة التي سيرته في القدس وتسيره الآن في رأي اليوم؛ وعلى الأخص في هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها الأمة العربية بعد فوضى ما يسمى زوراً بالربيع العربي؛ بل نفسر ما ينهج إليه عطوان من رؤى سياسية ومواقف فكرية متصلة غير منقطعة ضد المملكة بتفسيرات أكبر بكثير مما يذهب إليه بعض من يقرأ سيرته القديمة قبل ما يقرب من ثلاثة عقود حين كان يعمل في صحيفة «الشرق الأوسط» في لندن وقبلها في صحيفة المدينة محرراً في جدة كفرصة يتيمة للعمل الصحفي لشاب يتطلع إلى أن ينتمي إلى أية مطبوعة من صحف الخليج العربي كحلم وردي لأي إعلامي عربي؛ لا نحمل انقلابه المفاجئ بسبب فض عقد عمله مع الشرق الأوسط آنذاك؛ قدر أنه «مهيأ» جاهز للارتماء في أحضان من يدفع أكثر!