كتبت في هذه الصحيفة قبل أشهر عن أزمة الإعلام السعودي، وخلصت في المقالة إلى أن المشكلة ليست في وصول السعوديين إلى بيوت العرب عبر الصحيفة أو شاشة التلفزيون أو حتى شاشة الهاتف المتنقل الصغيرة، المشكلة الحقيقية والكبيرة تكمن في أن هذا الوصول يفتقر إلى محتوى متنوع يستطيع إقناع العربي بطريقة غير مباشرة بالرؤية السعودية والهم السعودي والتفاصيل الصغيرة التي تكوّن الصورة السعودية العامة!
وسيلة الإعلام هي مجرد عربة نقل للمادة المؤثرة والقادرة على الاختراق بنعومة، والتي تتشكّل في العادة بعيدة عن استوديوهات الأخبار والبرامج التلفزيونية! أي إعلام مؤثر يجب أن يكون مرفوداً بحركة ثقافية مزدهرة، ونشاط فني رفيع، ومواسم رياضية حافلة، وصولات وجولات فكرية ثقيلة، وتنوع تراثي وإرث شعبي قادر على الاتصال والتواصل مع الآخر بلا حساسيات مصطنعة وحواجز متخيلة! ازدهار الحركة السينمائية سيغرس ريشة على رأس الإعلام السعودي، وانبعاث المهرجانات الشعبية من رقدتها وتعريضها للضوء من جهة ولسياح العالم من جهة أخرى سيضيف ريشة ثانية، وإذابة جرش والمربد وأصيلة وقرطاج في جنادرية أولى وعكاظ ثانٍ وأبها ثالثة وظهران رابعة سيضيف ريشة ثالثة، وبناء مدينة إنتاج إعلامية ضخمة في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية وفتحها للمستثمرين الإقليميين والعالميين سيأتي بالريشة الرابعة، وتعزيز الفنون والتنوع الثقافي في المناهج المدرسية سيجلب بقية الريش!
المشكلة ليست في الإعلام وإنما ما سيحمله الإعلام... هذا كلام مفهوم! لكن هل سننتظر عشر سنين أو 20 سنة حتى يتكون هذا المحتوى ويشتد عوده ويطرح ثماره ليكون مطلوباً من جيراننا العرب؟
أظن أن أقرب إجابة إلى القارئ هي «لا». ولهذا فإني سأطرح هنا بعض الأفكار التي أرى أنها ستسهم في الرفع من قيمة الإعلام السعودي، وتساعده في تخطي أزمته الحالية ليتناسب مع حجم المملكة سياسة واقتصاداً. سأبدأ أولاً بالصحف اليومية، التي فقدت رصيداً كبيراً من حضورها في المشهد الإعلامي الداخلي، بعد ظهور ما صار يعرف بإعلام «وسائل التواصل الاجتماعي». الصحف اليوم وخصوصاً في منصاتها الورقية أصبحت في موقع المدافع عن صدقيتها وموثوقيتها وطزاجة أخبارها أمام المد الكبير «لصحافة المواطن» في منصات الإعلام الاجتماعي الرقمي، التي صارت تنقل الأخبار بمجرد وقوعها، وتعلّق عليها وتشرحّها وتضيف إليها. صار المتابع للأخبار يستقي معلومته الجديدة - صحيحة كانت أم ملفقة - من «تويتر» أو «فيسبوك» أو «أنستغرام» ثم ينتظر ١٨ ساعة أو ١٢ ساعة ليرى الخبر نفسه بتفاصيله الأولى على صفحات الجرائد في اليوم التالي! لم تغيّر الصحف الورقية من جلدها لتعبر أزمتها. بقيت كما هي قبل ١٠ سنوات، نفس الروح ونفس الحبر! ما أفقدها شيئاً فشيئاً حصريتها الصباحية التي كانت تتباهى بها قبل أن ينتقل الإعلام إلى منصته الجديدة في الشاشة السحرية الجديدة في يد المتتبع للأخبار.
ماذا عليها أن تفعل إذا ما أرادت أن تعيش خمس أو عشر سنوات أخرى؟ ماذا عليها أن تفعل لتنقذ بقية منصاتها الإخبارية الإلكترونية (الموقع الإلكتروني وحساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي)؟
أولاً، على عرّابي هذه الصحف أن يعتبروا الورق منصة واحدة من عدة منصات وليست هي كل الصحيفة. ما أشاهده اليوم أن بعض رؤساء التحرير في الصحف اليومية يعدون أنفسهم قادة لصحافة الورق فقط، وليسوا معنيين بشكل كبير ببقية منصات الصحيفة الأخرى! وهذا - في تقديري - خطأ كبير وكارثي في نفس الوقت، لأنهم بهذا السلوك الدفاعي الغريب عن المنصة الورقية، والانحياز الأخلاقي و«التراثي» لها يحرقون بقية المنصات ويعجّلون بموت الصحيفة بمنصاتها كافة! الورق في هذا الوقت لا يجب أن يأخذ أكثر من ٢٥ في المئة من اهتمام رؤساء التحرير، على أن تذهب بقية اهتمامهم للموقع الإلكتروني ومواقع حسابات الصحيفة في «يوتيوب» و«توتير» و«أنستغرام» و«فيسبوك» وغيرها من حساب الصحيفة في مواقع التواصل الاجتماعي. اسم الصحيفة في هذا العصر أصبح مظلة شاملة ولا ينبغي للورق أن يتسيّد حضور هذا الاسم في عقل القارئ.
ثانياً، أصبح لزاماً اليوم وأكثر من أي وقت مضى أن تقلص الصحف من أعداد منصاتها الورقية، وتوزعها بالمجان! تفعل ذلك قبل أن تجد نفسها في القريب العاجل تطبع عشرات الآلاف من النسخ لتعيدها في اليوم التالي جميعها إلى مخازن الصحيفة! تفعل ذلك لتنشّط حركة الإعلان فيها وتعيد من جديد للإعلان الورقي حضوره وهيبته المسروقة، وأظن أن خسائر الطباعة بالمجان تُمكن تغطيتها بعدد قليل جداً من الإعلانات التي تسعى مختارة للوقوع في شَرَك التوزيع المجاني.
ثالثاً، على الصحف في نسختها الورقية أن تخلع عنها عباءة «الصحافة القومية» وتعود كما كانت في سابق عهدها قبل عشرات السنين إلى صحافة المناطق. في هذا العصر لم يعد مجدياً أن تتناول كل الصحف الورقية في المناطق السعودية كافة الأخبار نفسها والتعليقات نفسها، وكأن كل صحيفة مسؤولة عن كل خبر وحادثة في الوطن الكبير. النجاة المتخيلة للمنصات الورقية تتمثل في أن تركز كل صحيفة على ما يدور في الأقاليم التابعة لمنطقتها فقط، لتخلق ولاء جديداً قد يشفع للورق بالاستمرار إلى حين.
رابعاً، العمل على تبني رؤية صحافية جديدة تتناسب مع دورة الـ24 ساعة. الخبر يُصاغ بمدرسة صحافية جديدة، والتحقيق والتقرير والاستطلاع والحوار كذلك. لا ينبغي للورق أن يدخل في منافسة معروف من الفائز فيها سلفاً مع وسائل الإخبار الأخرى. هذا تأسيس جديد وشاق بلا شك، لكنه عمل جراحي ضروري ليبقى للورق بعض حضوره وأهميته.
خامساً، إحالة كل مواد منصة الورق للموقع الإلكتروني وجعلها تابعة لاسم الصحيفة في الفضاء الإلكتروني، من خلال دعوة القارئ في كل مادة صحفية للاستزادة - إذا رغب - من الموقع الإلكتروني على الإنترنت. الورق في عمره الباقي له ينبغي أن يكون منصة ترويج لمستقبل الصحيفة المتمثل في حضورها إلكترونياً.
في الأسبوع المقبل سأتحدث عن الإعلام السعودي المرئي داخلياً وخارجياً، وصحافة وسائل التواصل الاجتماعي.
عبدالله ناصر العتيبي- الحياة السعودية-