عبد الإله بلقزيز- بوابة الشروق- إذا كان العنف الوحيد المتمتع بالمشروعية والشرعية هو عنف الدولة، لاقترانه بالقانون، فإن شرعيته تقوم في مواجهة عنف آخر غير مشروع، هو العنف الأهلي في صورتيْه الرئيستين: العنف الأهلي الذي تقوم به الجماعات العصبوية المغلقة، والعنف السياسي الذي تقوم به الأحزاب والجماعات السياسية من كلّ مذهبٍ ومشرَب. ليس في داخل المجتمع من شرعيةٍ للعنف إلاّ ذاك الذي تمارسه الدولة باسم الأمّة، وفي نطاق القانون؛ وهو غيرُ الاستبداد والديكتاتورية لأن هذيْن ينتهكان القانون؛ العنف غيرُ الرسمي (= الأهلي) باسم الثورة، أو الدين، أو المذهب، أو القبيلة، أو الجهوية... فعْلٌ ينتهك القانون ويخرق إرادة الأمّة، وهو والاستبداد والديكتاتورية سواء. توفّر الدولة الحديثة وسائل مختلفة للتعبير عن الحقوق والمصالح، والدفاع عنها في وجه الهضم والانتهاك، ولذلك لا مجال لممارسة الصراع، في أي مجتمع، من طريق توسُّل السلاح لخطورة ذلك على الاستقرار والسّلم والمدنية.
العنف الوحيد المشروع، إلى جانب العنف القانوني للدولة، هو العنف المصروف إلى ردّ العدوان الأجنبي، وهو عنف قد تقوم به الدولة وجيشُها، وقد يقوم به الشعب إن احتُلَّتْ أرضهُ، وسقطت فيه الدولة أو اضمحلت قدرتُها على تحرير الوطن.
لم تنشأ الجيوش، في الدول، إلاّ للدفاع عن السيادة الوطنية أو القومية، في وجه أخطارٍ خارجية واقعة عليها (العدوان والاحتلال)، أو تتهدَّدُها بالوقوع عليها. والعنف (= الردّ العسكري) الذي تبديه الدولة، في مثل هذه الحال مشروعٌ، ويحظى بالاعتراف الدولي، لأن فيه، فضلاً عن ردِّ ظُلمٍ واستعادةِ حقٍّ مصادَر، إنفاذًا لأحكام القانون الدولي الذي يَعني له خرقُ سيادةِ دولةٍ من الدول انتهاكًا له كقانون. بالمثل لم تنشأ حركات التحرر الوطني، وحركات المقاومة المسلحة، في المستعمرات وفي البلدان التي تعرّضت للاحتلال الكولونيالي الغربي أو النازي إلاّ لتحرير أوطانها من ذلك الاحتلال الذي وقَع عليها، وألغى الدولةَ فيها كلاًّ أو جزءًا. أما العنف الوطني المسلّح، الذي تلجأ إليه تلك الحركات، فمشروعيته بيّنة لا غبار عليها؛ وهو ما تلحظه القوانين الدولية نفسُها حين تُقِرُّهُ وتشرعن حقّ الدول والحركات الوطنية المحتلة أراضيها فيه.
وقد يحدث ألّا تأتي ممارسةُ حقّ الدفاع المشروع عن الاستقلال والسيادة، باستعادتهما أو الكفاح من أجل استعادتهما بالسلاح، من جانب الدولة فحسب، أو من جانب الحركات الوطنية وحركات المقاومة فحسب، بل من لدنهما معًا ومِن طريق تعاوُنٍ وتنسيق. يقع ذلك، في الغالب، في حالين: تقسيم الكيان المحتل من قِبل قوى الاحتلال، وضَعف إمكانات الدولة ونقصَ قدرتها على مواجهة الاحتلال وتحرير أرضها. المثال الأوّل ؛ الثورة التحررية الفيتنامية، إبان انقسام البلد إلى شمالٍ وجنوب في سياق الاحتلال الأمريكي؛ حيث حصل التحالف بين الفييتكونغ والدولة في هانوي لمواجهة الغزاة الأمريكيين، وعملائهم في الداخل وصولاً إلى إسقاط سايغون ودحر الاحتلال الأمريكي. والمثال الثاني؛ لبنان، الذي تعرّض جنوبُه للاحتلال، في العام 1978، (في ما سمّي ب «عملية الليطاني»)، وتوسَّع نطاقُ احتلاله في العام 1982 (= عملية «سلامة الجليل الأعلى») وحصار بيروت (قبل الانكفاء الصهيوني إلى مناطق الجنوب بعد العام 1985). لم تكن الدولة اللبنانية قادرة على تحرير الجنوب، لكنها غطَّت، سياسيًّا، مقاومةً شعبية مسلّحة انطلقت في البلاد، منذ صيف العام 1982، وأسبغت عليها الشرعية محليًا ودوليًا، وتبادلت معها الأدوار، وصولاً إلى إنجاز التحرير في الخامس والعشرين من مايو/أيار 2000.
وأيًّا تكُنِ الجهةُ التي تقود العنف الوطني المسلّح ضد الاحتلال، دولةً كانت أو مقاومة شعبية، فإن مشروعية هذا العنف ومسوِّغَهُ ليسا متأتيين، فحسب، من إقرار القانون الدولي له، واعتراف قرارات مؤسساته به، وإنما مأتاهُ من فعل الاحتلال نفسه.
إن الاحتلال، بالتعريف، عنفٌ مسلّح يقع، بشكلٍ غير مشروع، على شعب ووطن ودولة، ولا يمكن رفعه إلاّ بعنفٍ مضادّ («ما أخِذ بالقوة لا يُسْتَرَدّ بغير القوة» كما قال الرئيس جمال عبدالناصر). والعنف المضادّ هذا مشروع، لأنه دفاع عن النفس ضدّ العدوان، وفعلٌ متناسب مع أحكام القانون الدولي الذي يجرّم عدوان دولةٍ على أخرى. ليس من وجهِ شبَهِ بين العنف الوطني المشروع، ضدّ الاحتلال والعدوان الأجنبي، وبين العنف السياسي في الداخل ضدّ الخصوم، الهادف إلى حيازة السلطة بالقوة؛ فالعنف الأخير هذا، والإرهاب أعلى أشكاله، يرادف في المعنى، كما في النتائج الناجمة منه، عنف الاحتلال والعدوان الخارجي. كلاهما عنفٌ غيرُ مشروع لأنه غيرُ قانوني (الأول ينتهك قانون الدولة والثاني ينتهك القانون الدولي)، وكلاهُما يدمّر المجتمع والمقدّرات ويمزِّق نسيج الوطن والوحدة الوطنية في البلد الذي يقع فعلهما عليه.
في العنف الوطني التحرري، يتوحّد الشعب في وجه الأجنبي، وينسى انقساماته، وتجتمع إرادات قواه الاجتماعية المختلفة على الهدف الوطني المشترك والجَامِع. أمّا في العنف السياسي الأهلي والحزبي فينقسم الشعب الواحد، والمجتمع الواحد، إلى عصائب يقاتل بعضُها بعضًا، فتذوي فيه علاقات التلاحم مُخْلِيَةً الساحة لغرائز الإفناء المتبادل. فارقٌ كبيرٌ هو، إذن، بين المعركة الوطنية الموحِّدة والحرب الأهلية المفتِّتَة، بين عُنْفٍ تحرّري يصنع وطنًا وعنفٍ أهلي يدمِّر مجتمعًا ودولة.