أحمد بن سالم الفلاحي- عمان اليوم- راهنت المجتمعات التقليدية حتى عهد قريب على «اللحمة الاجتماعية»، وعدتها مؤشرا مهما لمدى ترابط أبناء المجتمع مع بعضهم البعض، وتآزرهم، وتكاتفهم، وعززوا ذلك بتواصل غير طبيعي يتجاوز الحسابات المادية، ويذهب كثيرا على أعماق النفس عندما تجيش بأهميته ويكون لها بمثابة القلق الذي لا يستكين حتى يتم التواصل بين طرفين، ولذلك شهدت الفترات الماضية من حياة المجتمع، هنا في عمان، هذه التفاعلية المحمودة، والمتميزة، وعدت إضاءة اجتماعية خاصة وسط مجتمعات ربما لا تلتفت كثيرا إلى هذه المسألة، ولم يقتصر تفاعلها على مناسبات بعينها، بقدر ما كانت سلوكا جماعيا يبدأ به الفرد من خلال أنشطته اليومية مع الآخر، وينتهي بسلوك جماعي متكاتف لا تنفصل فرديته عن جماعيته الكبيرة، وقد عايشت شخصيا هذه التظاهرة الاجتماعية منذ بدايات الوعي المتنامي مع عمري الزمني، ولذلك عندما أكتب عنه اليوم، فإنني لا أكتب من فراغ، وإنما أعقد مقارنة حقيقية بين همة الأجيال طوال هذه السنوات التي تقطع اليوم أكثر من أربعين عاما، إن سلمنا أني في العشرة أعوام الأولى ربما لم أستوعب من حقيقة هذا المفهوم بالشكل الذي يمكن أن يقاس عليه.
تمثل الأعياد أنموذجا حيا لهذا التفاعل لكثافة الممارسة، وحيوية المتفاعلين فيها، وشمولية الممارسة من أدنى الأعمار – حيث الطفولة الباكرة – إلى أكبر الأعمار – حيث كبار السن – الذين شكلوا القدوة الحقيقية للممارسة الحقيقية لهذا التفاعل، حيث الإصرار على اصطحاب الأطفال في جولات الذهاب والعودة للزيارات المختلفة للقريب والصديق، وعُدّ أي تقصير في هذه التفاعلية الاجتماعية نوعا من نكران الجميل، أو تقصيرا مخلا بحقيقة العلاقات القائمة بين الأفراد، وبالتالي ليس بعيدا أن يتعرض من يقع في هذا السلوك الشائن للتقريع، واللوم المباشر، وربما الزعل والقطيعة ولو لفترة زمنية محدودة، نتيجة لتقصيره في هذا الجانب، هذه في عموميتها حالة اجتماعية خاصة للمجتمع العماني، ولذلك وجد مجموعة الإخوة المقيمين من الدول العربية، على وجه الخصوص، أن في ذلك خصوصية يتميز بها أبناء المجتمع في عمان، انعكاسا لمبالغاتهم في هذه الممارسة، وقد صرحوا بذلك بأنفسهم.
في السنوات الأخيرة بدأت هذه الظاهرة بخفوت فورتها الأولى، حيث دخل المعترك أجيال جديدة وهم أبناء الثلاثين سنة الأخيرة، والذين أصبحوا اليوم آباء وأمهات، والصورة هذه ليست بطلاقتها، ولكنها تتداخل فيها خفوت الهمة، وبالتالي نموها مع كل سنة تمر، ونموها هذا هو الذي يقوض هذه اللحمة الاجتماعية ليوصلها في مستوى هم الفرد وليس هم الجماعة، وربما هذا النمو يظل طبيعيا في مفهوم نمو المجتمعات، وتشكلها حسب ظروف العصر الذي تعيشه، والتي – أي الظروف – تفرض أجندتها الخاصة على أبناء المجتمعات، بصورة تلقائية جدا، وغير محسوسة، ويبقى الجانب المحسوس منها، والذي يمكن القياس عليه هو: الحراك الاجتماعي بسبب مواقع العمل والذي يفرض على الناس الانتقال من قراهم ومدنهم إلى حيث مواقع العمل الجديدة، ومع مرور الأيام تصبح مواقع العمل هذه البلد البديل للبلد الأم، ومع توالي السنوات تكبر الأسر وتتضخم، وتتضاءل صورة البلد الأم شيئا فشيئا حتى تصبح شيئا من الماضي الجميل فقط.
في هذه الإضاءة المجانبة لهذه المسألة، يقينا، لا تكون المطالبة أو الدعوة بالحرص المطلق على بقاء الصورة ذاتها إلا بالقدر الذي يوجد فيه رابط من القربى على أقل تقدير، حتى لا نقع في حقيقة الضرر وهو قطع علاقات ذوي القربى، أما العلاقات الأخرى، فيبقى الإيمان بأهميتها وفقا للظروف التي تفرض أجندتها على الناس، فهذا ديدن الحياة اليومية التي لا تقبل الثبات، ولا الديمومة.