علي الرشيد- الشروق- من الأدوار الرئيسية لأدباء الأطفال والمهتمين بالطفولة والتربية والتعليم غرس حبّ اللغة العربية الفصحى في نفوس الناشئة منذ نعومة أظفارهم، ومساعدتهم على إجادة التحدث والكتابة بها، والتعبير من خلالها، والتفاعل معها وتذوّق جمالياتها، والإسهام في ردم الهّوة الحاصلة بينهم وبين لغتهم الخالدة، لأنّ اللغة الأمّ هي جزء من الهويّة الثقافية للأمم.
وللعلم فإن اكتساب الطفل للفصحى في الصغر أسهل وأيسر، وهو مبني على نظريات اكتساب اللغات، كما يذكر الدكتور عبد الله الدنان صاحب نظرية "تعليم اللغة العربية الفصحى بالفطرة والممارسة"، ومن المسلّم به في النظرية الفطرية وهي إحدى النظريات العلمية المفسِّرة لاكتساب الطفل لغته الأولى (First Language Acquisition) أن لدى الأطفال استعدادًا لمهارة لغوية فطرية تسمى جهاز اكتساب اللغةLanguage Acquisition Device) (LAD، وهذا الجهاز يكون في أفضل حالاته في الفترة العمرية من الثالثة إلى التاسعة، ثم يبدأ بالضمور والضعف، والطفل في هذه الفترة يكون قادراً على تلقي تراكيب اللغة دون معرفة قواعد نظامها النحوي.
ومن عجب أن أقرأ لبعض كتّاب وناشري كتب الأطفال ما يمكن أن يعدّ "شرعنة" لاستخدام العامية الدارجة واللهجات العربية المحلية في كتابة قصص الأطفال أو نظم دواوين الشعر للأطفال، بصورة جزئية أو كلية، بحجة "عزوف الأطفال واليافعين عن القراءة باللغة العربية"، أو لأن "استخدام بعض الجمل بالعاميّة دون إقحام، يجعل الكتاب أكثر قربا من الطفل ويخاطبه بحميمية أكثر".
وأخطر من ذلك تصريح وزيرة التربية في الجزائر بأن "استخدام اللغة الجزائرية الدارجة في التعليم يسمح بتنمية أجزاء مهمة من المخّ" مستندة إلى دراسات قام بها علماء أعصاب!.
التحدث العامية ـ على الأقل ـ مُستَخدم بكثرة في المدارس والجامعات لدى كثير من المدرسين والتربويين والأكاديميين، وفي وسائل الإعلام المسموعة والمرئية كالإذاعة والتلفزة، بكل ما لذلك من تأثير عن انفصال العربيّ عن جمال لغته والقدرة على إجادة التحدث بها وكتابتها بصورة صحيحة فضلا عن تذوقها والتفاعل معها، وكذلك التأثير على وحدة العوامل التي تجمع الشعوب العربية من محيطها إلى خليجيها (اللغة المشتركة والهوية الثقافية(
ما هو أسوأ من ذلك الحديث بالعامية في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية حيث يخاطب المعلم تلاميذه بالعامية، ويشرح دروس المنهج بالعامية الدارجة رغم أن المنهج مكتوب بالعربية الفصحى، وما تقوم به بعض وسائط الإعلام الموجهة للأطفال من إنتاج وبث أناشيد بالدارجة لتصبح لدينا أناشيد للأطفال باللهجات المصرية والشامية والخليجية وهكذا، أو ما تقوم به دور نشر مصرية ولبنانية من طباعة دواوين أطفال بالدارجة المحلية بكل ما لذلك من تأثير في إفساد الذوق اللغوي عند هذه الشريحة العمرية.
لكنّ ما أنظر إليه بخطورة أكبر في تقديري هي الدعوات التي تحثّ على تبني العاميّة في أوساط الأطفال أو تجعل الأطفال هدفا لها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، جزئية أو كلية، بحسن نية أو سوء نية، خصوصا إذا جاءت على لسان كتّاب الأطفال أو ناشري كتب الأطفال أو التربويين أو المسؤولين في سلك التعليم والإعلام والطفولة لأنها تتعلق بالأساس والمستقبل، وبدلا من أن نعتبر سن الطفولة أهم وأنسب مرحلة للارتباط باللغة العربية الفصحى (اللغة الأم) والاعتزاز بها، نجعله ـ مع الأسف ـ المعول الأوّل لهدم جدار الفصحى، وهو ما يجعل العربية الفصحى بغيضة إلى نفوس أبنائها بدلا من أن تكون محبّبة إلى قلوبهم وقريبة إلى وجدانهم.
إن لم نكن جزءا من حلّ المشكلة فلا أقلّ من أن ننأى بأنفسنا عن المساهمة في تكريس الواقع المؤلم لاستخدام العامية أو القيام بشرعنتها بسبب ضعفنا أو تخاذلنا عن مواجهة غربة أجيالنا عن لغتهم الأم، والآثار السلبية الناتجة عن"الثنائية اللغوية/ العامية والفصحى".
ولو أننا بدأنا بالعربية الفصحى مع الطفل في سن مبكّرة من البيت ثم من رياض الأطفال ثم في المرحلة الابتدائية، وهكذا في حلقات متوالية يشد بعضها بعضا، فعندها تكون العربية الفصحى مألوفة لدى العربيّ دون صعوبة في الاستخدام، محبوبة لديه، يتذوقها دون أن يجد أي صعوبة في التواصل من خلالها والتفاعل بها، وبالتالي فإن على كتّاب الطفل والمعنيين بالطفولة والتربية والتعليم دعم هذا التوجه، وليس تبرير العامية تحت مبررات صعوبة استخدام الفصحى من قبل الأطفال وغربتهم عنها.