طراد بن سعيد العمري- أنحاء- حديث وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في المؤتمر الصحفي في موسكو بعد محادثاته مع نظيره الروسي، فاجأ الجميع وفجّر الموقف وأعاد المساعي حول الأزمة السورية إلى المربع الأول، وذلك بالإصرار على ضرورة تنحي الرئيس بشار الأسد، لأنه “جزء من المشكلة”، كما يقول الوزير الجبير. لفهم تطورات ومألات الموقف، سنحلل في هذا المقال/الوثيقة الموقف من خلال ثلاثة أسئلة نحاول معالجتها: (١) ماذا حصل في موسكو لكي يعود الموقف السعودي إلى سابق عهده في فبراير ٢٠١٢م؟ (٢) ماهو أثر وتأثير الإنتكاسة في المواقف تجاه حل سريع للازمة السورية والتهدئة في المنطقة؟ (٣) لماذا لا نتخيّل ولو قليلاً إمكانية أن يكون الرئيس السوري، ليس جزء من الحل فحسب، بل هو ووجوده وجهوده كل الحل، ليس على مستوى الأزمة السورية فقط، بل على صعيد حل وحلحلة كافة القضايا في المنطقة، وماهو المطلوب لذلك؟
أولاً، حديث الجبير في المؤتمر الصحفي وكشفه لماتم في داخل غرفة الإجتماع حول تنحي الرئيس السوري كان مفاجئاً حتى لوزير الخارجية الروسي حسب ماذكره مراقبون حضروا المؤتمر الصحفي. هذا يدل على أن الجبير كان ينتظر نتيجة معينة من الوساطة الروسية لكنها لم تتم، أو لم تأتي على ما يتمناه الوزير السعودي، وهنا فجر عادل الجبير الموقف المتشدد حول إسقاط الرئيس السوري أمام الإعلام كرد مباشر ورسالة سريعة على النتيجة الغير مرضية. أغلب الظن، من وجهة نظرنا، أن الأمر يتعلق بإيران وموقفها من الحالة في اليمن لعدة أسباب: الأول، أن إعلان زيارة الجبير لموسكو قد تم تسبيبه لمناقشة الوضع في سوريا واليمن؛ الثاني، حديث الرئيس الأمريكي أوباما لفريد زكريا عن الخلاف بين السعودية وإيران أنه يتركز حول سوريا واليمن؛ الثالث، مرور وزير الخارجية السعودي برلين قبيل زيارته لموسكو ومحادثاته مع المسئولين الألمان بما لهم من إهتمام وتأثير في الشأن الإيراني. وهنا نتوقع أن الموقف السعودي من الأزمة السورية مرتبط بقضايا في المنطقة تظن السعودية أنها مرتبطة بإيران، أو تدّعي الأخيرة أن لها الكلمة الفصل فيها
ثانياً، تأثير تبدل الموقف السعودي هي: (١) في فبراير من العام ٢٠١٢م وفي مؤتمر لأصدقاء سوريا صرح الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، بأهمية رحيل الرئيس الأسد “طوعاً أو كرهاً” وكانت الأزمة في بدايتها، بالأمس كرر عادل الجبير نفس المقولة بشكل أخر وهو خروج الأسد”بالوسائل السياسية او العسكرية، هذه المقولة أو هذا التصريح السابق واللاحق، يعتبر سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، من ناحية، كما أن هناك معطيات كثيرة تغيرت على الساحة الدولية تفترض تغيير المواقف، من ناحية أخرى؛(٢) ذكر الجبير أن السعودية مع الحفاظ على الدولة والنظام والجيش ومؤسسات الدولة، لكن من دون الرئيس الأسد، هذه المقولة دبلوماسية بإمتياز ولتسجيل موقف فقط، لكنها مستحيلة التنفيذ وخصوصاً في بلد كسوريا يشكل فيه الرئيس والدولة والنظام والجيش والمؤسسات كل لا يتجزأ، هكذا كان العراق، وهذه هي سوريا بدليل تماسك مكونات الدولة الآنفة الذكر بالرغم من حرب ضروس على مدى الخمس سنوات الماضية؛(٣) ذكر عادل الجبير أن السعودية تؤيد الحل على أساس وثيقة جنيڤ ١، تلك الوثيقة المتعددة التفسيرات فالجانب الروسي يفسرها بشكل وبأولويات مختلفة عن تفسير وأولويات الجانب الأمريكي، إضافة إلى أن الرئيس الأمريكي أعلن صراحة أن لا ترابط بين رحيل الأسد وبقية نقاط الوثيقة؛(٤) عودة المساعي لحل الأزمة السورية إلى المربع الأول ستعقد كثير من القضايا المعقدة أصلاً وستدخل المنطقة في مزيد من الإحتقان بسبب التجاذبات السياسية بين السعودية وإيران؛(٥) نظن أن الوزير عادل الجبير يعلم تمام العلم أن روسيا وإيران لن تتنازلا عن الرئيس بشار الأسد، لأن في ذلك تنازل عن سوريا التي ستئول الى منظمات إرهابية كما صرح الوزير الروسي؛(٦) إصرار دولة خارجية على تنحي رئيس دولة مستقلة وذات سيادة سيزيد من تكاتف الشعب حول الرئيس وجيشه ونظامه وحكومته كما سيزيد من مناهضة الشعب والجيش لأي حكومة مستقبلية مفروضة من الخارج؛(٧) الموقف السعودي المطالَب بتنحي الرئيس سيزيد من تعنت المعارضة ورفع سقف توقعاتها وسيُفشل لقاء موسكو للحل السياسي وللتمهيد لجنيڤ ٣.
ثالثاً، كيف يكون الرئيس بشار الأسد كل الحل وليس جزء منه فقط؟ بداية، السعودية يهمها (١) سلامة وأمن الشعب السوري وعودة الحياة الطبيعية لسوريا أمنياً وإجتماعياً وإقتصادياً وسياسياً؛ (٢) وحدة الأراضي السورية؛ (٣) عودة الحياة الطبيعية والممارسات السياسية والأمنية والبرلمانية والمجتمعية الى لبنان؛ (٤) دحر الإرهاب وطرد المنظمات الإرهابية؛ (٥) عودة الأوضاع للتهدئة وتقوية مفهوم الدولة ونبذ الطائفية والعنف في العراق؛ (٦) علاقات طبيعية وحسن جوار مع إيران وعدم تدخلها في الشئون الداخلية للدول العربية وتوقف التصريحات الإستفزاية والعدائية تجاه السعودية ودول الخليج واليمن؛ (٧) إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، وتسريع الحل للصراع العربي – الإسرائيلي على أساس المبادرة العربية للسلام. أليس كذلك؟
حسناً، يمكن للسعودية تحقيق النقاط الآنفة الذكر وغيرها إذا حاولت أن تغير المدخل فقط، وإستخدمت “البوابة السورية” بدلاً من البوابة الإيرانية، والجلوس مباشرة مع الرئيس بشار الأسد بكل مافي ذلك من عنت نفسي وأخلاقي فالسياسة لا تؤمن بالعواطف أو شخصنة المواقف. “فالبوابات الكبيرة أو العظيمة يفتحها مفتاح صغير”، كما يقول المثل. قد يكون الوهج والضجيج الإيراني أصم أذاننا أو خلق غشاوة على أعيننا ولم نفكر بأبسط الحلول، ولا نقول أسهلها. الحوار المباشر مع القيادة السورية وتحديداً الرئيس بشار الأسد هو أقصر الطرق ويأتي بأفضل الحلول. كيف؟
لقاء يجمع بين القيادة السعودية والقيادة السورية كفيل بتحطيم ٨٠٪ من العوائق والعقبات أمام حل جذري وشامل في منطقة الشرق الأوسط. الدخول إلى الحل عبر البوابة السورية والنظام السوري والرئيس السوري سيكون أكثر منفعة وأقصر مدة وأقل كلفة على السعودية كقوة رئيسية في: النظام الخليجي؛ النظام العربي؛ والنظام الشرق أوسطي، وقوة مؤثرة في النظام الدولي. الإعتقاد بأن الحل في المنطقة لا يأتي إلا عبر إيران لا يقل سطحية وسذاجة سياسية عن الظن بأن إيران دولة هامشية أو غير معنية بقضايا المنطقة. قوة النظام السوري الحالي في محوريته إقليمياً لكن قيمته ووزنه تضاءلت وتراجعت مؤقتاً في أذهان التحليل الإستراتيجي بسبب وقوع سوريا بكل مكوناتها الشرعية في العزلة وتحت مجهر الإتهام إقليماً ودولياً وإعلامياً وشعبياً، بسبب ما تعيشه سوريا من أزمة في الداخل.
المزاج السياسي للقوى العظمى، والتحركات السياسية المتسارعة في المنطقة، التي تزامنت مع الإتفاق النووي بين إيران والغرب – لكنها ليست نتيجة حتمية له كما يظن البعض – والرغبة المعلنة للدول الرئيسية الفاعلة في المنطقة السعودية وإيران في أمن وإستقرار المنطقة، وتمدد العمليات للمنظمات الإرهابية من تركيا شمالاً إلى اليمن جنوباً، ومن تونس غرباً الى الكويت شرقاً، وبوادر إنفصال تلوح في الأفق الكردي شمال العراق ولربما سوريا؛ وإقبال لبنان على أزمة سياسية داخلية تضعه على شفير الهاوية، وصمود الدولة السورية بجيشها ومؤسساتها ونظامها ورئيسها، وتفتت المعارضة السورية وتشتتها بين الداخل والخارج، والتقدم الميداني على صعيد الجبهة اليمنية مع بوادر إنفصال في الأفق الجنوبي لليمن، ورغبة إيران المعلنة، على الأقل، في سلام وحسن جوار، وأهمية عودة ملف الصراع العربي – الإسرائيلي الى الطاولة والنور، كل ما سبق عناصر تظافرت لكي تقود كافة الأطراف السياسية إلى منطق التعايش والسلام وتبديل أولوياتها وتعظيم تنازلاتها وتخفيض سقف توقعاتها، للوصول الى تهدئة وحلحلة للنزاعات في كافة قضايا المنطقة. وهنا نطرح سؤالنا المحوري: إذا كان التصالح مع سوريا نتيجة لكل ما ذكرناه آنفاً بات حتمياً فأيهما أفضل أن يأتي من بوابة إيران أم بشكل مباشر بين السعودية وسوريا؟
الحل عبر البوابة الإيرانية:
(١) الخصومة بين السعودية وإيران تنقسم الى قسمين: (أ) خصومة ثنائية بين إيران والسعودية، وتشكل ما نسبته (٢٠٪) من وزن الخلاف أو الخصومة؛ (ب) خصومة إقليمية بسبب ما تراه السعودية تدخل إيراني في الأمن القومي العربي في دول مثل: سوريا ولبنان والعراق والبحرين واليمن، مع تصريحات إستفزازية، أو عدائية وهذه الخصومة تشكل ما نسبته (٨٠٪) من وزن الخلاف أو الخصومة. ولذا، ستكون معظم المحادثات مع إيران حول شؤون عربية محضة.
(٢) الأسلوب الإيراني لا يحتمله الجانب السعودي لسببين: (أ) تستخدم إيران أسلوب النفس الطويل الذي يظهر عدم التسرع تجاه الحلول النهائية قبل حلحلة التفاصيل وهذا مرهق دبلوماسياً وسياسياً للسعودية؛ (ب) إستمرار إيران في اللعب عبر مؤيديها في الدول المعنية قيد التفاوض لتحقيق مكاسب سياسية في غرف المفاوضات عبر الواقع الميداني.
(٣) فتح الباب أمام إيران لبحث قضايا عربية في هذه الحقبة بالذات، يعطيها الحق المكتسب وسابقة سياسية للتدخل في أي من تلك الدول كلما دعت الحاجة أو تغيرت الظروف السياسية في الدول العربية المعنية.
(٤) عدم الثقة بين السعودية وإيران خلق حاجزاً نفسياً، وفي ظل إنعدام الثقة تصبح الضمانات مطلباً أساسياً، مما يفترض أن تقدم السعودية ضمانات مقابلة في شأن عربي متغيّر بشكل متسارع، قد لا تملك السعودية كافة خيوط اللعبة السياسية فيه.
(٥) في كل محادثات ثنائية هناك مقايضات لكي يشعر كل طرف بأنه خرج منتصراً. فإذا إفترضنا جدلاً، بأن إيران إختارت طريق الإنكفاء، وعدم تمديد نفوذها، ووافقت وأجابت على كل ما يقلق السعودية، فذلك بثمن، فماذا تستطيع أن تقدم السعودية مقابل ذلك لإيران؟ هذا سؤال جوهري يحدد مبدأ ومفهوم وعلاقة وموضوع ونتائج التفاوض. الخصومة بين السعودية وإيران تقع في الملعب العربي وليس العكس، وليس هناك إشتباك بين السعودية وإيران في ملعب إيراني لتتم المقايضة فيه أو حوله
الحل عبر بوابة سوريا:
(١) الخصومة بين السعودية وسوريا تنقسم إلى قسمين: (أ) خصومة ثنائية بإمتياز مع الرئيس والنظام والحكومة السورية وتشكل ما نسبته (٨٠٪) من حجم ووزن الخصومة وتتلخص في العلاقة مع الشعب السوري؛ (ب) خلاف أو خصومة مع سوريا حول قضايا إقليمية وتشكل ما نسبته (٢٠٪) من وزن وحجم الخلاف أو الخصومة.
(٢) الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد والنظام السوري الحالي وسوريا الدولة من أقرب الدول والأنظمة والرؤساء للسعودية وقيادتها وبينهم من التاريخ والمشتركات ونقاط الإلتقاء حول القضايا الإستراتيجية الشيء الكثير وبمجرد العزم على التصالح ستتهاوى كل ما يظن أنها معوقات أو عقبات.
(٣) سوريا بكل مكوناتها – الرئيس والجيش والنظام والحكومة والمؤسسات والشعب – يعلمون علم اليقين أن السعودية ليس لها أي مطامع في سوريا كدول إقليمية مثل تركيا حالياً، أو كالعراق في زمن من الأزمان. وأن الغضبة السعودية ولدت وتنامت وإستفحلت حمية للشعب السوري الذي قُتِل وهُجر وشُرد. علاقة الحب/الكره هذه بين السعودية وسوريا ستتحول الى علاقة حميمية مع ثاني لقاء بعيد خروج المصورين والصحفيين، وسيمحو اللقاء، ولو بعد حين، جراح الطرفين.
(٤) سوريا دولة محورية إستراتيجياً، وذات أهمية مركزية في النظامين العربي والشرق أوسطي، ووجودها برئيسها ونظامها وحكومتها ومؤسساتها وشعبها الصامد، هو أمر ذَا قيمة حيوية ويعزز من مكانة السعودية الإستراتيجية ويبعد عنها “الإعياء السياسي” الذي قد ينشأ من سقوط الرئيس والنظام وبالتالي الدولة السورية
(٥) سوريا دولة عربية تحتفظ بقدر كبير من الزخم والقيم العربية، ولذا فإن التصالح المباشر سيضيف عاملاً مساعداً في المستقبل بأن العلاقة السعودية السورية أتت بشكل مباشر وليس عن طريق طرف غير عربي
أخيراً، الخلاصة
يقوم التصالح مع سوريا مباشرة على:
(١) فتح الأبواب لنظام عربي قوي ومستجد وإنشاء مجلس أمن عربي من القوى الثلاث: السعودية وسوريا ومصر.
(٢) تتولى سوريا تهدئة الأوضاع والمصالحة بين السعودية وإيران، وإصلاح الشأن اللبناني كما تراه سوريا،
(٣) تتولى السعودية تهدئة الأوضاع والمصالحة بين سوريا والغرب، وإصلاح الشأن اليمني كما تراه السعودية.
(٤) تتولى السعودية ومصر عمل الترتيبات لعودة سوريا الى الجامعة العربية وفق المطالَب السورية
(٥) تتولى السعودية ومصر التنسيق مع سوريا لوقف كافة أنواع الدعم الخارجي للجماعات والفصائل والمنظمات المعتدية وحماية التراب السوري من التدخلات الغير مشروعة
(٦) تقدم سوريا خارطة طريق للسيطرة على الوضع الداخلي السوري والدول المحيطة بها وخطط إعادة الإعمار وعودة المهجرين ومحاربة الإرهاب،
(٧) تقدم السعودية كافة سبل المساعدة لسوريا في رفع العقوبات والحصار في الإتجاهين الأوروبي والأمريكي، وتقديم الدعم الخليجي والدولي لإعادة إعمار سوريا.
ختاماً، القيادة السعودية لديها من الحكمة وبعد النظر والشجاعة ونكران الذات والتسامح مع الخصوم – وهو بالمناسبة منهج قديم إنتهجه المؤسس الملك عبدالعزيز، يرحمه الله – ما يؤهلها لكي تكون مبادرة ومتبوعة، بدلاً من أن تكون تابعة وتنتهج سياسة ردود الأفعال لمبادرة هنا أو هناك. ولذا فالسعودية معنية قبل غيرها بجمع الشتات وقيادة الدول في الظروف العصيبة. يقول النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادر تحمي صفوه أن يُكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا