نبيل عبدالفتاح - البيان- ما سر هذه العودة إلى التوحش والقسوة الصارمة لدى بعض منظري داعش والنصرة وأشباههما ونظائرهما؟ ما معنى هذا النكوص نحو بعض المصادر التاريخية وانتزاعها من تاريخها وسياقاتها وشروطها وأسئلة عصرها، وفرضها عنوة لتحكم حياة متغيرة ومعقدة، لم يعد فيها للمسلمين ودولهم ومجتمعاتهم قدرة على الإبداع والاختراع وإنتاج النظريات والمعارف والأفكار، بل وغير قادرين على التفاعل الضاري مع متغيرات عصرنا المعولم؟
يبدو لي وأرجو ألا أكون مخطئاً، أن الفجوات التاريخية بين الدول والمجتمعات العربية ، وبين التطورات الكبرى للتحديث والحداثة وما بعدهما، والوقوع فى أسر الاستعمار الغربي، وعوامل التخلف التاريخي المركب، هى التى أدت إلى تراجع العقل الإسلامي الشريعي والفلسفي معاً. وشكل الإسلام أحد دروع الهوية، والتماسك الجمعي إزاء التفكك والضياع التاريخي والذوبان فى إطار المنظومات الثقافية والقيمية الغربية. من ثم دارت غالب محاولات التجديد، والإصلاح الديني والثقافي فى معظمها حول مسعى الدمج بين ثنائية الحفاظ على الأصول والهوية، وبين استعارة بعض الأفكار الحداثية والسعي إلى دمجها أو التوليف فيما بينها، وبين موارد الموروث الديني.
هذا النمط التوليفي، والانتقائي اعتمد على إضفاء شرعية دينية على الأفكار الغربية/ الأوروبية المستعارة منذ نهاية القرن الثامن عشر، والتاسع عشر حتى نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي.
من هنا نشأت الأفكار الحداثية المبتسرة فى حضانات الفكر التقليدي الديني الوضعي، ومعتمدة عليه. ومن ثم لم تستطع مشروعات الحداثة أن تؤسس لها شرعية مستقلة، فى ظل البنى التقليدية، وما أعطى لها هذه الاستمرارية التاريخية، هو عمليات التحديث المادي السلطوي، من أشكال للمؤسسات الاقتصادية والسياسية، والإنتاجية، والتعليمية الحديثة فى ظل شروط اجتماعية وثقافية لم يكن مواتية فى بعض جوانبها لتطوير وتفعيل هذه المؤسسات.
إلا أن بعض الديناميكيات التحديثية هى التى أدت إلى استمرارية بعض مكونات المنظومة الفكرية الحداثية فى دعم بعض عمليات التحديث السلطوي للمؤسسات والقيم.
ثمة فشل تاريخي للحداثة فى تحريك بعض من الركود فى العقل الإسلامي الفقهي والفلسفي إلا قليلاً، لأن غالب جماعة العلماء التقليديين ربطوا بين مواجهة الاستعمار، وبين التمسك بالموروث الفقهي والتفسيرى التقليدي، وربطه بمفهوم لا تاريخي للهوية يتمثل فى واحدية معناها الديني ومكوناتها واستمراريتها فى التاريخ، على غير الواقع التاريخي والاجتماعي والثقافى المتغير، وعلى خلاف مع تطورات الجيو - سياسة، والتعدد العرقي والمذهبي والقومي والاجتماعي والمناطقي واللغوي.. الخ.
بعض محاولات الإصلاح والتجديد فى الفكر الإسلامي والعربي اعتمدت على بعض الانفتاح النسبي على المرجع الأوروبي وإنجازاته، إلا أن هذه الأفكار ظلت على هامش التطورات والانقطاعات الفلسفية والنظرية والمنهجية فى مجالات العلوم الاجتماعية، والطبيعية، ومن ثم كان بعضها هشاً، وسطحياً ولم تستطع أن تبلور مقاربات فى العمق للفكر الفلسفي والقانوني الغربي، ولا إجراء مراجعات فى العمق لبنى الأفكار الموروثة، التى ظلت رغم بشريتها ووضعيتها، مركزاً للتقديس حينا، والاجترار وإعادة الإنتاج، والتبجيل دونما مسعى لمقاربة تاريخية ونقدية لها وتفكيكية لتأويلاتها الوضعية.
هذه المحاولات التجديدية انكسرت قوادمها، مع تراجع الأفكار الليبرالية، والمجتمع شبه المفتوح وصعود وهيمنة التسلطية السياسية، وقمع الحريات العامة والشخصية لصالح دولة التعبئة والانقلابات العسكرية، والملكيات شبه الأوتوقراطية حيث اعتمدت التسلطية السياسية وأنظمتها على التسلطية الدينية التابعة.
من هنا شكل غياب الحريات وانتشار القمع السلطوي على تكريس عقلية الأتباع والنقل والعنعنه. من ناحية ثانية أسهم هجوم الإخوان ونظرائهم على الأفكار التجديدية ورموزها المصريين، فى صعود العقل التكفيري بديلاً عن التجديدي، والنقلي بديلاً عن الإبداعي، وأن تمدد التكفيريين فى داخل المؤسسات الدينية، والمدارس والجامعات أسهم، فى وأد بعض أفكار ومقاربات التجديد الدينى وإزاحتها والتشكيك فيها، أو تكفيرها.
من هنا تشرذم وتشظى العقل الإسلامي بين جماعات متصارعة ومتنافسة فيما بين بعضها بعضاً، والأخطر على نحو مذهبي استخدمته بعض الدول والأنظمة فى صراعاتها الإقليمية. من هنا بات عصياً أن تنتج الجماعات السياسية الإسلامية، عقلاً اجتهادياً ومنفتحاً على متغيرات عصرنا. هذا المأزق هو الذى دفع بعضهم إلى إعادة النظر فى بعض الآراء والمقولات الفقهية الموروثة وأسانيدها ومدى دقة أسانيدها وصحتها.
السجال الراهن سوف يتمدد، ومعه المزيد من التشظي فى أيديولوجيات جماعات العنف الديني على نحو أساء إلى الاسلام. من ثم نستطيع ملاحظة بعض من التواطؤ والتعاطف مع أيديولوجيا العنف والتوحش، من عديد رجال الدين، والجمهور فى بعض البلدان فى المنطقة، وذلك لاعتبارات تتصل بنمط من الهيمنة المذهبية داخل بعض النظم العربية، وإقصاء لمجموعات أخرى لم تجد سبيلاً لها سوى دعم داعش والنصرة وغيرها. لقد أصبح خطيراً هذا الصراع بين المذاهب والمدارس الفقهية.