بدر الراشد- الحياة- نشر موقع «بي بي سي» - العربي تقريراً مثيراً حول مسألة التفاوض مع تنظيم داعش في العراق وسورية. استطلع الموقع آراء أربعة مهتمين بالشأن العراقي، عرب وأجانب. كانت الآراء متباينة ومثيرة.
رأى جوناثان بويل، وهو أحد المفاوضين البريطانيين مع إرلندا الشمالية، أنه في حال غياب استراتيجية حقيقية لمواجهة «داعش»، والاكتفاء بالضربات الجوية، فلا بد من حل سياسي. الصحافي العراقي قيس قاسم رفض فكرة التفاوض باعتبار أن التنظيم إرهابي ومجرم، ولا يملك مطالب سياسية يمكن التفاوض حولها أساساً. الصحافية العراقية مينا العربي طرحت وجهة نظر مختلفة، وتدمج بين رؤيتي جوناثان بويل وقيس قاسم؛ باعتبار أنه لا أمل بالتفاوض مع قادة التنظيم، لكن التنظيم غير متماسك كما يحاول أن يوهمنا، لذا فيمكن التفاوض مع فصائل أو أشخاص يدعون ارتباطهم بالتنظيم إعلامياً، لكن هذا الادعاء لا يعكس الحقيقة. أخيراً، علق مايكل سيمبيل بأهمية التفاوض من أجل عمليات الإغاثة الإنسانية، بما أن إمكان حل الأزمة خلال المدى المنظور تبدو متعسرة، فهو يقترح تفاوضاً من أجل إدخال المساعدات الإنسانية لا لفرض حل سياسي.
إن تقرير «بي بي سي» ليس الأول من نوعه، فالحديث عن عقد مفاوضات سياسية مع التنظيم رؤية يظهرها باحثون غربيون بين فترة وأخرى، باعتباره أمراً واقعاً يجب التعامل معه كما هو، مع محاولة العمل على رسم حدود تمدده، مع غياب إمكان القضاء عليه.
وهنا لدينا الكثير من التجارب التي تحولت فيها جماعات «إرهابية» أو «متطرفة» إلى جماعات مقبولة دولياً، تحت لافتة الواقعية والقبول بالأمر الواقع. لدينا تجربة الجيش الجمهوري الإرلندي. وحركة طالبان في أفغانستان، وحركة المحاكم الإسلامية في الصومال.
ففي إرلندا خضعت بريطانيا في نهاية المطاف وقبلت بالتفاوض مع «إرهابيين»، ولم يحل بين قبول دولي واسع بحركة طالبان وبين خيار القضاء عليها إلا تسليم أسامة بن لادن بعد أحداث 11سبتمبر. أما المحاكم الإسلامية التي بدت تنظيماً غامضاً، ودينياً، ومتطرفاً، تدور الشكوك حول علاقة بعض قادته كطاهر عويس بتنظيم القاعدة، فقد انقسمت في نهاية المطاف إلى جناح «متطرف» وآخر «معتدل» وتولى مؤسس المحاكم شريف شيخ أحمد رئاسة الصومال إثر انتخابات 2009. لكن الحقيقة أن الوضع مختلف مع تنظيم داعش، وأعتقد بأن من يطرح فكرة التفاوض مع التنظيم يُغيب معطيات عدة على الأرض.
فلا يوجد دولة -باستثناء العراق- تمثل محاربة داعش أولوية بالنسبة إليها، وهو ما أسهم في تمدد التنظيم من دون مواجهات تذكر.
فالنظام السوري لديه من المشكلات ما يجعل «داعش» فرصة لا كارثة. فيمكن للحكومة السورية دائماً تقديم نفسها كمحاربة للإرهاب وشريك دولي متاح للتعاون؛ من أجل القضاء عليه، ويمكنها دائماً استخدام شعار مكافحة الإرهاب؛ لتبرير ضرب المدنيين في المدن الخارجة عن هيمنة بشار الأسد، والقضاء على الثورة المسلحة. فيما يمثل «داعش» التنظيم الذي يتشارك مع النظام في مواجهة المعارضة المسلحة، وهذا عائد لاستراتيجيات التنظيم نفسه وأماكن وجوده، لا مؤامرة تحاك في السراديب.
تركيا من جهتها تنظر إلى المنطقة بعين على «داعش»، وأخرى على الأكراد. فلا ترغب في القضاء عليه ما دام التنظيم يستنزفهم. لذا فهي، إلى الآن، لم تستشعر أهمية القضاء عليه، ولم ترمِ بثقلها في هذا الاتجاه، حتى مع التحركات الأخيرة والتي بدت موجهة للأكراد أكثر من «داعش» وإن استخدمته شعاراً لها، فلم تحن حتى الآن لحظة المواجهات المفتوحة بين تركيا وبينه على ما يبدو.
لا يمثل «داعش» حتى الآن خطراً مباشراً على إيران، وهي تحاربه بميلشياتها العراقية في العراق. لذا فدخوله في مواجهة مباشرة مع إيران لن يحدث في المدى المنظور لأسباب جغرافية.
أما الأردن والسعودية فهما بعيدتان عن خطوط التماس المباشرة مع التنظيم. والسعودية منشغلة بما يحدث في اليمن من ناحية، وبملاحقة أي عمل محتمل للتنظيم على أراضيها من ناحية أخرى.
العراق غير قادر على مواجهة «داعش» لأسباب كثيرة، ليس أولها عدم امتلاكه القدرات العسكرية القادرة على مواجهة التنظيم، ولا آخرها الفساد السياسي الذي ينخر في حكومة بغداد، وسياساتها الطائفية، وعجزها عن تقديم أبسط الخدمات للمواطنين، وهو ما جعل كراهية الحكومة في حواضنها الشعبية ربما يعادل كراهيتها في المناطق الخارجة عن سيطرتها. لتجنب التفاوض مع «داعش»، تجب إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة بشكل جذري. هذا التغيير ليس مستحيلاً، لكنه شديد الصعوبة في ظل المعطيات الحالية.
أولاً: يجب إسقاط النظام السوري، ومحاولة تنسيق جهود السوريين ضد «داعش». يمكن النظر إلى مواجهته عاملاً لتوحيد السوريين في حال إسقاط النظام. أما اليوم فلا يمكن حشد السوريين ضد «داعش» وهم يواجهون آلة القتل الأسدية، الأشد فتكاً وضراوة، وتجذراً وتاريخية.
الأمر الآخر: تجب إعادة بناء العملية السياسية في العراق. وهنا يجب تجاوز رغبات الأميركان بتمثيل شكلي للسنة في الحكومة العراقية، أو حتى تسليحهم في قوات الحرس الوطني العراقي المفترضة. يجب أن يتم نقض العملية السياسية في العراق برمتها والتي نشأت تحت ظل الاحتلال الأميركي وتقوم على فكرة المحاصصة الطائفية، والتي تهيمن عليها طهران. ربما يبدو أن هذا الأخير أصعب حتى من التفاوض مع «داعش». لكنه ربما الحل الوحيد لتجنب وجود دولة جديدة دينية متطرفة في العالم العربي.