د. جلال أمين- البيان- كتب اقتصادي كبير مرة يشكو من أن النظرية الاقتصادية متخلفة عادة عما يحدث في الواقع بنحو خمسين عاماً.
الظاهرة خطيرة إذا كانت صحيحة، واعتقادي بأنها للأسف قريبة جداً من الحقيقة، بل تنطبق أيضاً على النظريات السياسية.
لقد ظل الاقتصاديون يرددون نظريات آدم سميث، التي تفترض المنافسة الكاملة، حتى بعد أن فقدت المنافسة الكاملة أهميتها وحلت محلها صور مختلفة من الاحتكار وظلوا ولايزالون يتكلمون عن «سيادة المستهلك» حتى بعد أن أصبح المستهلك ألعوبة في أيدي المنتجين.
إنني أذكر جيداً كيف كانت كثرة من أبناء جيلي، وأنا منهم، في أيام الصبا والشباب عندما كان يطرح موضوع العدالة الاجتماعية، يميلون إلى الاستهزاء بمن يدعو إلى أي صورة من صور العمل المدني، الاختياري والتطوعي، دون تدخل من الدولة، لتحسين أحوال الفقراء، كبناء مستشفى أو مدرسة، عن طريق جمع التبرعات، أو كتوزيع بعض المواد الغذائية أو الملابس على الفقراء.. هكذا كانت أيضاً نظرتنا إلى النشاط الذي كانت تقوم به قبل ثورة 1952، جمعية نبيلة اسمها «جماعة الرواد».
كانت تقوم بإنشاء نواد في الأحياء الشعبية، يمكن فيها للشباب من الفقراء ممارسة نشاط رياضي أو ثقافي، وإقامة معسكرات لهم على الشواطئ في فصل الصيف، بنفقة بسيطة، وبالمجان .. إلخ. كان رأينا المتعالي حينئذ، والمفرط في الغطرسة، أن مثل هذه الأعمال تضر قضية العدالة الاجتماعية، إذ إن من شأن هذا أن يضعف من «ثورية» الفقراء والمظلومين، ومن ثم يؤخر قيام «الثورة» المطلوبة والقادمة حتماً، عاجلاً أو آجلاً، وأن هذه الثورة عندما تأتي ستجعل الفقراء يستولون على الدولة، فتقوم الدولة حينئذ بإنشاء كل ما هو مطلوب من مستشفيات ومدارس، وتقدم مختلف الخدمات الرياضية والثقافية، فلا علاج لمشكلة الظلم الاجتماعي إلا بعمل من أعمال الدولة -هكذا كنا نظن- وكل ما يمكن أن يقوم به المجتمع المدني سوف يؤخر هذا العلاج أو سيذهب سدى.
ولكنني أسأل نفسي اليوم: هل تستطيع الحكومات تحقيق العدالة الاجتماعية كما كنا نظن؟ هل هناك حقاً جدوى لما نسمعه ونقرأه كل يوم عن ضرورة تدخل الحكومات لعمل كذا وكذا، من أجل الفقراء والمظلومين؟!
الجميع يتظاهرون بالعمل من أجل مصلحة الفقراء ومحدودي الدخل، كما كانت الحال دائماً، ولايزال دعاة الإصلاح من بيننا يطالبون السياسيين بهذه المطالب نفسها، فما الذي حدث حتى أصبح هذا التظاهر من جانب السياسيين أبعد كثيراً عن التحقق في الواقع، وجعل مطالبة المصلحين للسياسيين بالعمل من أجل العدالة الاجتماعية أقرب إلى الأحلام. لقد حدث خلال نصف القرن الماضي ما أضعف بشدة من سلطة الحكومات إزاء الشركات العملاقة، وجعل اتخاذ الحكومات موقعاً محايداً بين الطبقات أصعب مما كان في أي وقت في الماضي. بل إن الحكومات التي كانت تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال إزاء القوى السياسية في الخارج، تحولت في مراحل سابقة إلى حكومات تابعة تأتمر في أمور كثيرة مهمة بما يأتيها من تعليمات من خارجها. وهذه التعليمات كثيرا ما تتعارض مع هدف تحقيق العدالة الاجتماعية.
وزاد الطين بلة حلول عصر «التضخم» حيث تزيد الأسعار بسرعة لم تكن معهودة من قبل، فلا تؤدي الزيادة النقدية في الدخول إلى ارتفاع حقيقي في مستوى معيشة الفقراء، ولا يبدو أن أحداً قادر على وضع حد لهذا التضخم. في أثناء ذلك يستمر التظاهر بعكس ذلك، ويستمر حديث السياسيين والاقتصاديين والمصلحين وكأننا على وشك تحقيق العدالة الاجتماعية.