مجاهد عبدالمتعالي - الوطن- الحركات الإسلامية الآن تقوم بنحر نفسها وبيدها، لا بيد غيرها، فقد حولت نفسها إلى وباء يجمع المستذئبين، ممن امتلأت قلوبهم قيحاً وصديداً على بؤس الواقع، وانسداد الأفق
هل نحن بحاجة بعد دماء أبنائنا في أبها، إلى تنشيط الذاكرة لتكون طازجة أكثر في سرد أسماء الخمسة عشر من أصل تسعة عشر في حادثة الحادي عشر من سبتمبر؟ وهل نحن بحاجة إلى تنشيط الذاكرة أكثر لتكون طازجة في استذكار أسماء من هللوا وكبروا وأطلقوا الأسماء التراثية على ما حصل كقولهم: (غزوة مانهاتن)؟ وهل نسينا رقص بعضنا طرباً وهو يرى بنشوة الغافل أسامة بن لادن وهو على ظهر الخيل حاملاً البندقية يتوعد الغرب بحرب تجتاح الولايات الأميركية والدول الأوروبية، مردداً أسماء معارك تخص زماناً غير زماننا كاليرموك وحطين وذات الصواري! لقد مرّ على هذه البانوراما من لقطات الذاكرة ستة عشر عاما تقريباً، وما زال الحمقى والمغفلون يستبدلون بن لادن بالبغدادي، ويتوعدون الغرب بحرائق ودماء ومذابح لم نرها سوى في أرضنا العربية وبين أهلنا بدماء العرب والمسلمين أنفسهم من المحيط إلى الخليج؟! فيا لسخف العقول التي لا ترعوي، ويا لسخف من لا يستوعب تكرار الدروس.
درس الأفغان العرب لم نستوعبه جيداً، بل حاول بعضنا تحويل فشلنا فيه إلى فائدة، فأبقينا نغمة (الجهاد) متذبذبة غير محسومة على لسان كثير من (رجال دين) يعشقون سفك الدم بأيدي غيرهم، ليكون أبناؤنا مرتزقة في معارك يقودها الكبار وفق مصالحهم السياسية البحتة في صراع النفوذ، ويغتر بها الحمقى إذ يفرشون الطريق إليها بسجادة الصلاة.
يستحمقون الناس بتوزيع التهم على إيران وإسرائيل، فهل قاسمي الإيراني والموساد الإسرائيلي هما من يلقن أبناءنا ما نسمعه من تخريجات دينية نعرف من كان يلقنها بأدلة شرعية، ما زلنا نذكر محاولة ترسيخها في عقولنا، وكأنما نسينا رسخوها عبر عقود لأكثر من جيل لأدبيات الإخوان عبر المدارس ومنابر المساجد وأشرطة الكاسيت التي عبَّر عن حالنا معها سرور زين العابدين (محمد بن سرور نايف زين العابدين تنتسب إليه الحركة السرورية المنبثقة من حركة الإخوان) بعد حضوره إلى المملكة عام 1965 في وصف السعوديين قبل هيمنة الإخوان المسلمين على صناعة المناهج في المدارس، فيقول إبان تدريسه في حائل: (الإسلام بالمفهوم الشامل لم يكن موجوداً عندهم… كانوا أناساً بسطاء) "من لقاء برنامج مراجعات في قناة الحوار 2008م"، أي أن السعوديين قبل حركة الإخوان المسلمين كانوا مسلمين بلا أيديولوجيا دينية، ويقصد بذلك المفهوم الأممي للجماعة كمشروع للإسلام السياسي يجب أن يسعى إليه الناس ويدركوا أبعاده، ويصبح جزءاً من خريطة أحلامهم، ووجدانهم الديني، وعليه فلا يمكن أن نستغرب بعض ردود الأفعال المرتبكة حالياً في أوساط كثيرة ما بين ضرورة وقوف الشعب مع سياسة دولته الخارجية، أو الوقوف مع وجهة النظر التي تربت عليها الأجيال وروج لها الإخوان عن الأوضاع في مصر كحرب بين الإسلام وأنصاره والكفر وأشياعه، وعلى الرغم مما في هذا التقسيم من بشاعة كانوا ينقمونها أنفسهم على بوش الابن عندما كان يحول العالم إلى فسطاطين، إلا أنهم وعلى مدى تاريخهم كانوا يجيدون ما هو أذكى من الاصطياد في الماء العكر، إذ كانوا يعكرون الماء الصافي ليصطادوا فيه، فأحياناً يوظفون الصلف السلفي لصالحهم، دون أن يدرك التيار السلفي أبعاد ذلك، خصوصاً أن التعاطي السلفي مع السياسة لا يدرك أبعاد السياسة، بقدر ما يفرز مطيعين جداً، أو متطرفين جداً، وعليه فقد عانت دول الخليج حتى من حملات الإخوان لتشويه بعض تشكيلاتها الوزارية، بل والطعن في شخوص بعض الوزراء كأفراد عبر اتهامهم في دينهم، خصوصاً الجهات التي تتقاطع مع ميدانهم الجماهيري، ويرتكز عليها اهتمام الجماعة، وزارة الثقافة والإعلام، ووزارة التربية والتعليم، فيصطنعون الأزمات على أي تطوير أو تهيئة شعبية لقرارات تطويرية بحاجة لتأهيل اجتماعي تحاوله هاتان الوزارتان، ما أخضع الحكومات الخليجية كثيراً إلى شروط الابتزاز التي حصد الإخوان ثمارها الطيبة فيما قدمته دول الخليج لهم طيلة ما يزيد على نصف قرن من اكتساح للتربية والتعليم، وقد بدأت دول الخليج تعيد ترتيب أوراقها في التعامل مع هذه الملفات، ولكن اقتلاع هذه الأيديولوجيا السياسدينية ليس بالأمر السهل، فهي تتترس عند مهاجمتها بأنه هجوم على الدين نفسه، بل أحياناً تتترس بأن الهجوم عليها هو هجوم على هوية الدولة والشعب، ولكن من يعرف الناس قبل هذه الأيديولوجيا سيدرك الفرق بين إرادة الشعب (سنة وشيعة) في الولاء لأسرة حاكمة بشروط العدل والكرامة والحرية، وبين إرادة الحركيين في السيطرة على الشعب ليكون الولاء وفق شروط هؤلاء الحزبيين، ليصبحوا هم وحدهم أهل الحل والعقد بين الناس والحاكم.
موت الأيديولوجيا بطريقتين، وكلا الطريقتين من داخلها فقط، إحداها في الاعتراف في استنفاد فرصتها، والأخرى في تكريس أخطائها وانشغالها بأطماعها الأنانية بشكل أحمق، فقد حاربت الكتلة الغربية الاتحاد السوفياتي بكل طرقها الساخنة والباردة، ولم يفتت الأيديولوجيا السوفياتية سوى رئيس الحزب الأيديولوجي نفسه (ميخائيل جورباتشوف) رئيس الاتحاد السوفياتي، إذ رأى (استنفاد الفرص) وهذه الطريقة الأولى، وحارب الفرنسيون استبداد الكنيسة ولم ينتصروا إلا بأيدي رجال الدين أنفسهم الذين أكدوا في كل لحظة أنهم إقطاعيون كمن يحميهم تماماً، لا تشبع بطونهم من أكل أموال الناس بالباطل وباسم الكنيسة نفسها، عبر (تكريس الحماقة) في الطمع والأنانية حتى ثار الناس على مكتسبات الكنيسة ورجال الدين ومن يرعاهم، وتلك الطريقة الثانية.
الدرس القاسي المستفاد، أن الحركات الإسلامية الآن تقوم بنحر نفسها وبيدها، لا بيد غيرها، فقد حولت نفسها إلى وباء يجمع المستذئبين، ممن امتلأت قلوبهم قيحاً وصديداً على بؤس الواقع، وانسداد الأفق.
توجد سياسات للدول العظمى تغيظ الصغار، ولكن توجد حضارة إنسانية من أقصى اليابان في الجنوب الشرقي إلى أقصى كندا في الشمال الغربي، حضارة من أخذ بها وبأسبابها صعد في سلم الكبار، لا يمنعه سوى عجزه وقلة حيلته، وكلالته على نفسه، إذ يرى نفسه تابعاً مهزوماً يعيش (قابلية الاستعمار) المستتر الجديد، بعد أن ناضل الآباء في طرد الاستعمار الظاهر القديم.
كل أحرار الدنيا لا يريدون أوطانهم إلا عزيزة قوية، بسواعد أبنائها بكرامة متساوية، بلا إحن طائفية، ولا تلاعبات فئوية، تلاعبات تصنع خصوماً يتسلق بها أحفاد راسبوتين على رؤوس الحمقى والمغفلين، كقضايا تصلح لتفتيت الأوطان، لا لبنائها وازدهارها.
من يشعرك أنه شريك لك ضد جارك لأن عندكما نفس القاعدة الاجتماعية أو الدينية، سينقلب عليك يوماً بحجة أنه شريك لجارك في المكتسبات الاقتصادية، فلا تثق إلا بشراكة المفاهيم الإنسانية الموحدة التي لا تحتاج إلى حذلقة فقيه أو عالم اجتماع، والاستبداد عاشق لسياسة الارتجال، ولعبة الأمر الواقع في (فرّق تسد)، لكن نهايته دائماً على يد (حرسه القديم)، ولهذا نقطة ضعف الاتحاد السوفياتي هي نفس نقطة كل المستبدين العرب، إنهم الحرس القديم الذين يتحولون إلى تروس صدئة تفقد لياقة الهرولة مع معطيات العصر في التغيير والتطوير والإصلاح، راقبوا كل عجز عربي وستجدوا وراءه (الحرس القديم المتكلّس).
هل يستطيع الاستبداد تغيير جلده؟ نعم يستطيع تغيير الجلد، لكنه أبداً لم يستطع في كل تجاربه التاريخية أن يغير طريقته في التفكير، يكرر أخطاءه دائماً، مشغول بأوضاع (المراقبة والمعاقبة) عن قوانين (الحرية والكرامة)، ليتفاجأ بقانون الحياة في خيارين لا ثالث لهما، إما الموت البطيء الممل المقرف، وإما موت الفجأة المخيف المربك.