عبدالنبي العكري- الوسط- باستثناء الترخيص لهيئة الاتحاد الوطني في 16 مارس/ آذار 1956 في البحرين، كحزب سياسي معترف به رسميّاً، فإنه لم يجرِ الترخيص رسميّاً لأي تنظيم سياسي في البلدان الخليجية، وحتى صيغة الجمعيات السياسية الحالية في البحرين فإنها دون الأحزاب السياسية، اذ إن لها الحق بالانشغال بالسياسة دون الاشتغال بها.
لقد تم اعتماد فذلكة غريبة، وهي الجمعيات والأندية كبديل عن الأحزاب، ومن المعروف أن الجمعيات الخيرية والإسلامية كانت هي الأولى في التنظيم المجتمعي، وكانت مرغوبةً من قبل الجهات الرسمية، فهي كفيلة باستيعاب طاقات النشطاء، بدلاً من التوجّه للعمل السياسي أو تبني أفكار التغيير. كما أنها أداة ضبط للمجتمع سلوكاً وأفكاراً. ومن جانب آخر، هي حاضنة لطاقات الشباب، والمجتمع عموماً، لمواجهة التنظيمات والأفكار والقوى الداعية للتغيير والتحديث بمختلف اتجاهاتها القومية واليسارية والديمقراطية.
تسترت التنظيمات الإسلامية المحافظة خلف الجمعيات الخيرية الإسلامية بعلم السلطات، وربما برعايتها أحيانا، فيما كانت الحركات والتنظيمات القومية والوطنية واليسارية والديمقراطية، تُقمع وتُجبر على العمل تحت الأرض وتتم محاصرتها وتجفيف منابعها. لكنه وبفعل الضرورة، تُرك هامش لقيام الجمعيات المهنية والأندية الثقافية وجمعيات النفع العام، لتستوعب الفئات الاجتماعية الجديدة مثل الأطباء والمهندسين والكتاب والأدباء والصحافيين والصيادلة والمثقفين؛ وكذلك الجمعيات الفكرية مثل الجمعيات النسائية والشبابية، وعموماً فإنها تستوعب أفراد الطبقة الوسطى النشطاء.
وقد ازدهر تشكيل الجمعيات والأندية الثقافية والاجتماعية، والتي شكّل بعضها حاضنةً للمنتمين إلى التنظيمات السياسية المحرّمة، كما يقول العالم الاجتماعي المرحوم فؤاد الخوري. وتطور الأمر الى محاصرة واحتواء الجمعيات والأندية التي تشكّل مواقع استقطاب لمعارضة النظام أو حتى الاعتراض عليه.
ولو استعرضنا العقود الأربعة الماضية، لوجدنا تجليات ذلك في حل جمعيات وأندية راسخة مثل حل جمعية التوعية الإسلامية في البحرين في مطلع 1984، ومؤخراً حل عدة جمعيات، مثل مركز البحرين لحقوق الانسان، وجمعية التمريض، وجمعية المعلمين، إلخ. أما حل الإدارات غير المرغوبة، وفرض إجراءات عليها فحدّث ولا حرج، فهناك ما يزيد عن 25 جمعية جرى حل إداراتها.
ومن مراجعة القوانين المنظمة للجمعيات والأندية الأهلية في دول مجلس التعاون الخليجي، تتبيّن لنا القيود الثقيلة للترخيص للجمعيات والأندية الأهلية (غير الرياضية)، وتسيير أعمالها، وتجعلها تحت الرقابة المشدّدة للحكومة متمثلة بوزارات الشئون الاجتماعية والداخلية أيضاً، ما ترتب عليه ضمور شديد لهذه الأندية والجمعيات، وتراجع العمل التطوعي الأهلي، مقابل ازدهار الأندية الرياضية والجمعيات الترفيهية. لكن ذلك لم يكن كافياً لصد رياح التغيير حراكاً وأفكاراً، وخصوصاً مع ظهور جيل جديد يتمتع بالدراية والاطلاع، ومنفتح على العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والسفر والدراسة في الخارج وغيرها.
هنا لجأت الأنظمة الخليجية إلى خطة موازية تقوم على اختلاق المنظمات الأهلية الوهمية من جمعيات وأندية وغيرها، وخصوصاً في مجال العمل النقابي والحقوقي. وقد أجبرت التطورات في العلاقات الدولية الأنظمة الخليجية على مراعاة شكلية للاتفاقيات الدولية، التي تنص على تشكيل النقابات والاتحادات العمالية، والجمعيات الحقوقية المتخصصة في حقوق الإنسان، والشفافية أو الفئات الضعيفة على سبيل المثال. ولكن الأهم هي المنظمات والشبكات الحقوقية غير المشروعة بنظر الأنظمة، وبعضها مرخصٌ في الغرب، والتي تسعى للتواجد في بلدان الخليج ذاتها أو في المحافل العربية والدولية مثل جنيف، وتسعى للدخول ضمن النسيج العالمي للمنظمات والحركة الحقوقية العالمية. ولكن هذه النوعية من الجمعيات والمنظمات اصبحت تشكّل إحراجاً للجهات التي اختلقتها في المحافل الدولية، وسبباً لتوتر علاقات أحياناً، لأنها تسعى لإبراز صورة مثالية غير موجودة، وتسعى للقول للعالم إنه لا توجد أية مشاكل أو انتهاكات حقوقية، فالشعب والمقيمون في رخاء وثبات ونبات، وهم قانعون بأوضاعهم حيث تفيء عليهم السلطات بالخيرات.
إن تفحصاً لخريطة هذه المنظمات التي تُعرف بـ «الغونغو»، تظهر لنا أنها أضحت من أهم الوسائل المعتمدة لإخضاع تغييب وعي الناس، ومحاربة الطلائع الحقوقية، وإنه يجري استثناء هذه الجمعيات من القوانين المطبقة بشكل تعسفي على الجمعيات الحقوقية الحقيقية. ويجري استقطاب عناصرها بالإغراءات والمغانم، ويجري الصرف عليها بسخاء وتحظى بالرعاية الرسمية، ولا عجب أن تقيم المؤتمرات الباذخة في بلدانها وتتصدر المحافل الدولية بفضل ما تتمتع به من تسهيلات ودعم من الحكومات.
إننا نلمس هذا الدور يومياً ونصطدم به سواء في بلداننا أو في جنيف أو بروكسل أو واشنطن أو القاهرة. لكن للأنظمة حدودها حتى ولو امتلكت عظيم الإمكانات، ففي عالم اليوم المفتوح للتواصل في الداخل والخارج، لا يمكن مصادرة إرادة الإنسان ولا قضاياه، وتحريم منظمات والترويج لأخرى، فذلك لن يوقف القدرات الخلاقة للشعوب عن ابتداع وسائل أخرى للتنظيم والعمل والثقافة والتعبير عن هموم وقضايا الإنسان.