د. أحمد القديدي- الشرق- هل تذكرون اليوم ونحن في أغسطس 2015 في مهب الرياح العاتية تلك التقارير القيمة والجريئة التي أصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 2002 وسنة 2005 حول حال التنمية (في الحقيقة حال التخلف) في العالم العربي والتي شارك فيها أفضل العلماء والمفكرين وخبراء التنمية العرب أنفسهم (و لكنهم لم يكونوا من الموالين للأنظمة ولا من معارضيهم المتطرفين فاختارتهم المنظمة الأممية لعلمهم و حيادهم) وتم تقديم نتائج بحوثهم واقتراحاتهم لأصحاب الأمر آنذاك ثم نشرتها منظمة الأمم المتحدة على الرأي العام العربي والدولي من أجل تحقيق انطلاقة عربية شاملة في مطلع القرن الحادي والعشرين عسى الله ينهض بالأمة ويهدي نخبها ويضع أيدي حكامها على أصل العلل العربية و يمدهم بوصفات علاجها في لحظة ولوجنا القرن الحادي والعشرين ولم تخف تلك التقارير المرقمة والموثقة حالة العرب المنحدرة آنذاك لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية موضوعية كان بالإمكان تداركها منذ عشرية كاملة وتصحيح المسارات التنموية والسياسية قبل كارثة الفوضى التي حلت بنا منذ خمسة أعوام. ركزت تلك التقارير القيمة على أن العرب لم يفتهم القطار وبإمكانهم تغيير المنكر السائد ومواجهة التحديات بإدراك ووعي وشجاعة (بإمكان قرائي الأفاضل الرجوع اليها على مواقع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في محرك جوجل ليتأكدوا كم كانت التوصيفات صادقة و الحلول ممكنة و النظرة ثاقبة) ولكن... هيهات والذي فات مات ولن ينفع الندم لأن الذي حصل بالفعل و أثبتته الأيام العجاف هو أن أغلب حكام العرب صموا آذانهم عن تحليلات نخبتهم المفكرة بل اعتبرها بعض من كان في السلطة (ثم رحلوه عنها كما لم يتوقع) بأن تلك التقارير مؤامرة تحيكها لوبيات أمبريالية مشبوهة تشكك في زعامة القادة وفي نزاهة الحكومات! وبأنها صادرة عن قلوب حاقدة ذات مطامع فاسدة.
ونذكر أن تقاريرُ التنمية الإنسانية العربية أشركت مؤسَّساتٍ ومواطنين في البلدان العربية في التحليل والمناقشة بشأن العوامل التي تحدّد الخياراتِ والحرِّياتِ المتاحةَ للناس في جميع أنحاء المنطقة، بُغيةَ تبادل وجهات النظر وتعزيز التفاهم والتوافق في الآراء حول أولويات التنمية الإقليمية والوطنية.
كما حددت التقاريرُ أيضاً الفئاتِ المحرومةَ والمهمّشة داخل المنطقة، مقترحةً سياساتٍ واستراتيجياتٍ مبتكرة و جديدة و مسلّطة الضوء على الفُرَص المتاحة لإنقاذ هذه الفئات. واستهدفت التقاريرُ صانعي السياسات وقادةَ الرأي والمجتمعَ المدني المعنيين بالبحث عن مستقبلٍ أكثرَ إشراقًا ...
انطلقت تلك التقارير من أدواتٍ لقياس التقدّم البشري وإطلاق الإجراءات اللازمة للتغييركما استفادت من البيانات والتحليلات في تقارير التنمية البشرية العالمية. وارتقت بنهج التنمية الإنسانية إلى مستوى المنطقة مطالبة بضروة التنسيق الإقليمي، و إنشاء شراكاتٍ إقليميةً تؤثِّر في إحداث التغيير والأخذ بالتحرك الإقليمي المشترك في مجالات حقوق الإنسان، ومقاومة الفقر، وإعادة النظر في التعليم، والتصدي للإصلاح الاقتصادي، ومرض الإيدز، والتلاؤم مع العولمة. و أثارت هذه التقارير، التي أعدِّها وضبطها علماءعربٌ كأداةٍ توعوية مصمَّمةٍ للوصول إلى جمهورٍ واسع، نقاشًا عامًا وحشدت الدعمَ المشترك للعمل والتغيير كما ساعدت على بلورة الأولويات في المنطقة، و شكّلت مصدرًا لرأيٍ سياساتيٍّ بديل بشأن التخطيط الإنمائي عبر محاور رئيسيةٍ مختلفة. وكان الباعثُ على السلسلة التأسيسية إحساسًا مُلِحًّا لدى المفكرين العرب و منظمة الأمم المتحدة بشأن الحالة الانحدارية للبلدان العربية في مطلع ألفية جديدة. ومن ثمّ، كان الدافعُ هو معالجة ذلك الوضع من خلال تحليلٍ للمنطقة برؤية عربية أممية. وأصبح تقريرُ التنمية الإنسانية العربية منذ إطلاقه أحد أبرز منتجَات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يعمل كوسيلة فعالة للحوار السياساتيّ في البلدان العربية.
حدَّد أولُ تقارير التنمية الإنسانية العربية، خلْقُ الفرص للأجيال القادمة، المنشورُ عام 2002، ثلاثَ حالات عجْزٍ رئيسية للتنمية في العالم العربي، هي:
(1) اكتسابُ المعرفة و دخول الحضارة الرقمية بفضل تطويرذكي لبرامج التربية التعليم والتأهيل
(2) إطلاق الحرياتُ السياسية بإشراك كل فئات المجتمعات العربية في سن الخيارات و متابعة السياسات و فرض الشفافية في كل المجالات
(3) تمكين المرأة من الإسهام بقسطها في إنجاز التنمية.
ودرست الإصداراتُ اللاحقة - نحو بناء مجتمع المعرفة (2003)، نحو الحرية في الوطن العربي (2004) ، نحو نهوض المرأة في الوطن العربي (2005) – أي تلافي حالات العجز بتعمُّق أكبر، بهدف الوصول إلى رؤية إستراتيجية لكيفية التغلب على كل عجزٍ في سياق مشروعٍ للتنمية الإنسانية في العالم العربي.
تلك كانت البحوث الجدية والمقترحات الموضوعية والحلول الناجعة اشتغل عليها مثقفون متميزون عرب ليس لديهم حقد على الأنظمة الحاكمة آنذاك وليسوا من الذين في قلوبهم مرض! كما دأبت الأنظمة القمعية أن تسميهم وتسمينا ولكن ماذا كانت ردود الفعل لدى الماسكين بزمام الجمهوريات المضروبة؟ عديد المسؤولين رحبوا بهذه التقارير بالكلمات المعسولة ولكن مقترح توسيع فضاء الحريات العامة وتشريك المواطن في الشأن السياسي اصطدم بعقليات قديمة أنست على مدى عقود بمنطق الرعية كما أن تمكين المرأة من الترقي والمشاركة فهمه البعض على أنه إجراء مخالف للإسلام وللتقاليد بينما بادرت مجتمعات خليجية وهي المحافظة إلى إعطاء المرأة لديها فرصا أكبر لتحمل أمانة النهوض الاجتماعي بالشعب فنرى اليوم المرأة الخليجية تتبوأ مسؤوليات وتحتل مواقع وساهمت في تغيير العقليات و تطوير التنمية. إنني حين أذكر بالفرص العربية الضائعة لا أتباكى على ما فرطنا فيه بقدر ما أنصح بتأمين فرص المستقبل واقتناص رأي النخبة المثقفة وتشريك أوسع شرائح المجتمعات في التفكير حتى لا تستقيل من الشأن العام وتترك الحبل على غارب التكفير والعنف والفوضى.