سوسن دهنيم- الوسط- كل يكتسب خبراته وتجاربه مما يصنع: اللص، والأمين والأفّاق، والصادق والمنافق، والصريح والوصولي، والعصامي والنرجسي، ومن للناس وبالناس يعيش، والبراغماتي، والحر والعبد، والشريف والوضيع، ويقظ وميّت الضمير. كل أولئك بخبرات وتجارب تتراكم بفعل الممارسة، وبين خبرة وتجربة يكمن الفارق في ما يُعلي ويُسقط، وما يمنح شرفاً وما ينفيه، وما يضيف إلى الحياة وما يهدد الإضافة، تجاوزاً لتحويلها إلى خراب ينعب الغراب على أطلالها.
حتى الشيطان له خبرات وتجارب لا يمكن مجاراتها. «قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين» (الأعراف، 16/17)، اعتماداً على الخبرة الأولى في الإغواء الأول، في الجنة الأولى، تلك التي كان منها الهبوط الأول إلى الأرض حيث الشقاء. وأيضاً إراقة الدم الأول الذي لايزال إلى اليوم يهدر كما يهدر الماء في سهو وغفلة. وبين الشيطان في تحديد النص السماوي، وشياطين الإنس يكمن الفارق في الأدوات والوسائل. كلما ازدادت وتراكمت وتعاظمت الأدوات والوسائل سيكون هناك خير وسيكون هنالك شر. والمشكلة أن الذين يملكون الأدوات والإمكانيات اليوم، هم الذين يعيثون في الأرض فساداً وخراباً ومآسٍ يبدو أنها لن تنتهي.
يبقى الفارق في المسألة، في الشياطين الذين يعرفون أنهم كذلك، ويصرون على أنهم من جنس الملائكة بكل الفظاعات، والتخريب في العلاقات والبيئة والحقوق من حولهم. أولئك هم مأساة كل عصر ووقت، لأنهم يجدون في ما يقترفون ويرتكبون التزاماً بدور حُضّروا له وتم تأهيلهم للقيام به، ولا أحد سواهم يمكن له أن يقوم بذلك الدور. وهو ليس دوراً بالمعنى التراتبي في واجبات أي منا في هذه الحياة. الدور الذي يصنع ولا ينسف، ويُعلي ولا يُسقط، ويجذب ولا يُنفّر، بقدر ما هو خروج على كل ما عرفه الإنسان من الفطرة السليمة، والانشداد إلى الرحمة والرفق والمحبة والتعاطف والمبادرة لفعل الخيرات.
لا شيء من ذلك في قاموس تلك العيّنات من المحسوبين على البشر. لا شيء من ذلك ولسبب بسيط: لذلك تكاليف وخسارات لأرباح - وبحكم العادة والممارسة والأدوار - سهلة ويسيرة، تنهمر كما ينهمر الغيث من السماء بكل ذلك السخاء وعدم التمييز. ومثل تلك العيّنات لا طاقة لها ولا قدرات على مثل ذلك التحمّل. ولسبب بسيط أيضاً: وُلدتْ عالةً على البشر من حولها. لا تسعى إلى ما فيه بذل للآخرين، وسمو على الذات، وترفّع عن الأنا.
اللص، والأمين والأفّاق، والصادق والمنافق، والصريح والوصولي، والعصامي والنرجسي، ومن للناس وبالناس يعيش، والحر والعبد، والشريف والوضيع، ويقظ وميّت الضمير، كل أولئك بيننا وفي أوساطنا، وربما في البيئات الخاصة التي نألف ونعتاد، وقد تربطنا بهم صلات أرحام، يصرّون على أنهم ملائكة وعلى النقيض من العار الذي يلصق بالإنسان، فيما هم العار الذي يبدأ منهم، وينتهي بهم.
إنهم أبناء إبليس، الذين لم يهبطوا من السماء، بل هم من أهل الأرض، الذين هم ضمن الامتداد للشيطان الأول والأخير، بكل خبراته وتجاربه. مع إصرارهم على أنهم أبناء آدم الذي تعرَّض للغواية في الجنة بفعل أبيهم.
وعلينا أن نسأل: كم من شياطين الإنس بيننا اليوم، ممن يتحكمون في الكثير من أمور البشر والحياة؟ ذلك علمه عند الله، وعند الذين اكتووا بنارهم، ويظل الأمر بالنسبة إلى البشر في الحدود الضيقة من المعرفة.