د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد- الإمارات اليوم-
لاتزال الفتوى من غير أهل الاختصاص تشكل وضعاً غير سوي للمجتمعات الإسلامية؛ لما يكون لها من آثار سلبية في التدين والاستقرار الاجتماعي، وقد بذلت محاولات كثيرة للحد من ظاهرة الفتوى «السائبة» إن صح التعبير، وهي التي تكون من غير أهل الاختصاص فتفسد أكثر مما تصلح، وتضر أكثر مما تنفع، كما يعلمه الجميع من حال الجماعات التكفيرية التفجيرية الانتحارية مصاصة الدماء المقلقة للسلم والأمن الاجتماعيين، فإنها تصدر عن المنتسبين إليهم أو المتعاطفين معهم أو المستقين من مشاربهم، ثم تنسب بعد ذلك إلى الدين الإسلامي الحنيف الذي جاء رحمة وهدى للناس.
والسبب في ذلك أن تلك الفتاوى التصريحية أو التلميحية سمح لها أن تذاع وتشاع وتصل الأسماع بوسائل الإعلام المختلفة، ثم بعد ذلك يُتَّهم الدين ويؤذى المؤمنون، وكان الواجب أن يسلم الدين من هذا الاتهام، ويبرأ المؤمنون مما ينسب إليهم لو أن الناس أدركوا أن الذين يفتون ليسوا من أهل الاختصاص.
وقد أدركت الجهات الرسمية في كل البلاد خطورة ذلك فبذلت جهوداً كثيرة لمعالجة هذه القضية المعضلة، وعُقدت مؤتمرات وندوات لمناقشة أمر الفتاوى الشاذة، التي غالباً ما تكون مأخوذة من ظواهر نصوص تعسفاً في الاستدلال، من غير فقه ولا دراية بطرق الاستنباط وكيفية الاستدلال، وقد كان آخر هذه الجهود المؤتمر العالمي الذي عقدته دار الإفتاء المصرية برعاية من الرئاسة المصرية، ومشاركة جمّة من مختلف الدول، قدم فيه 23 بحثاً تأصيلياً للموضوع، وصحبته نقاشات جادة بين الباحثين، وتكلل المؤتمر بتوصيات نافعة منها: تشكيل لجنة للتنسيق الدائم بين دور الفتوى ومراكز الأبحاث لصياغة ردود فعالة في مخاطبة الرأي العام للرد على الفتاوى الشاذة والتكفيرية أولاً بأول، وصياغة ميثاق شرف بين المفتين، يضع الأُطر القانونية والإجرائية للتصدي لفوضى الفتاوى الشاذة، ودعوة المشتغلين بالإفتاء مؤسسات وأفراداً إلى تفعيله والالتزام به، كما أوصى المفتين بضرورة مراعاة تغيُّر العرف من بلد وزمن لآخر، ومراعاة تغير مناطات الأحكام من الماضي إلى الحاضر، كما أوصى بإنشاء معاهد شرعية خاصة تخرج متأهلين للإفتاء، وبتطويع وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة لخدمة المستفتين بأعلى جودة ومهارة، وأوصى كذلك بإنشاء مركز موحد للتنسيق بين دور الإفتاء ومؤسساته، بالإضافة إلى الدعوة إلى دورية انعقاد المؤتمر سنوياً للتباحث حول النوازل المستجدة التي تحتاج جهداً جماعياً يجانب الزلل.
وهذه توصيات نافعة تصون منصب الإفتاء العظيم الذي هو توقيع عن رب العالمين، وتبليغ عن سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، عن أن يتسوره غير المؤهلين، فلو أنها وجدت طريقاً للتنفيذ لأفادت كثيراً. وبالله التوفيق.