شؤون خليجية-
تشهد مناطق الصراع المشتعلة في الوطن العربي حالة من الحراك غير مسبوقة، خاصة على الصعيدين اليمني والسوري، فالمقاومة الشعبية في اليمن تحرز تقدمًا كبيرًا على جميع الجبهات، إذ نجحت خلال فترة وجيزة في تحرير المحافظات الجنوبية من ميليشيات الحوثي، التي بدأت في ترك مواقعها والاتجاه صوب المحافظات الشمالية، التي يتوقع أن تسقط خلال بضعة أشهر في أيدي المقاومة الشعبية، إذا استمرت وتيرة العمليات بشكلها الحالي، وقد جاء تقدم المقاومة اليمنية مفاجئًا وعلى غير سير التطورات في المنطقة، والتي كانت تنذر بفشل التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية لإعادة الشرعية المسلوبة في اليمن، وانتقال الصراع اليمني إلى الداخل السعودي، خاصة بعد حدوث عدة تفجيرات في المملكة، وقيام جماعة الحوثي بإطلاق نيرانها على المناطق السعودية القريبة من اليمن، الأمر نفسه بالنسبة للأزمة السورية التي شهدت مؤخرًا نجاحًا ملفتًا لحركات المقاومة المعتدلة، التي نجحت في تحقيق العديد من المكاسب الاستراتيجية، وباتت على مقربة من إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، لولا التدخل الإيراني والروسي بل والامريكي لوضع حد لتقدمها، خوفا من سقوط نظام الأسد قبل ايجاد البديل المقبول امريكيا وغربياً، ما دفع الجميع لطرح مختلف الملفات على طاولة المفاوضات حتى لا تخرج الامور عن السيطرة، ويفاجئ الجميع بأنظمة مشابهة لتلك التي افرزتها ثورات الربيع العربي، ما قد يضر بالمصالح الغربية والإيرانية في المنطقة، وبالتالي الاتفاق على العمل سويًا لحل الأزمات اليمنية والسورية وفقًا لمصالح الأطراف المختلفة، والتي قد تختلف تمامًا عن مصالح شعوب المنطقة، التي بذلت دماءها وأرواحها من أجل أن تنعم بالحرية والديموقراطية والحياة الإنسانية الكريمة، فالواضح أن السعودية وإيران تعملان على تسوية تلك الملفات بالشكل الذي يسهم في الحفاظ على مصالح الطرفين، فما يشغل المملكة الآن استعادة الشرعية اليمنية، بينما تحاول إيران الإبقاء على بشار الأسد أو استبداله بنظام آخر موالي لها، بحيث تظل محتفظة بنفوذها في المنطقة، وتهدئة الأوضاع إلى أن تتمكن من استكمال مشروع الهلال الشيعي مرة أخرى، خاصة وأن الشكوك حول الاتفاق الذي وقعته مع الولايات المتحدة بخصوص ملفها النووي مازالت مثارة، وتحتاج إلى طمأنة الجميع بما في ذلك دول الخليج، التي تمارس ضغوطًا كبيرة على الإدارة الأمريكية الحالية لاستمرار حصارها الاقتصادي المفروض على إيران، لمنعها من استكمال برنامجها النووي في غفلة من الجميع.
السعودية.. المصالح فوق المبادئ
عندما تغير النظام السعودي السابق الذي كان رأس حربة في إسقاط ثورات الربيع العربي في العديد من الدول العربية، استبشرت الشعوب خيرا،ً واعتقدت أن النظام الجديد ينحاز إلى الشعوب ويغلب المبادئ والأخلاق على المصالح، إلا أنه وبعد اشتداد الضغوط الخارجية على النظام الجديد الذي يسعى لتثبيت أقدامه في الداخل والخارج، وتعرضه لتحديات وجودية تهدد بقاءه، بدأنا نشهد تغييرًا جذريًا في سياسته الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالأزمتين اليمنية والسورية، وهذا على ما يبدو- حسب العديد من الخبراء- السبب الرئيسي وراء التقدم الذي تحرزه المقاومة الشعبية في اليمن، والذي أدى حتى الآن لدخر جماعة الحوثي وتخليها عن العديد من المناطق الاستراتيجية التي سبق وأن سيطرت عليها، ويرجع التغير في السياسة السعودية الخارجية للمرة الثانية خلال أقل من عام، وتعمدها تحسين علاقاتها مع الدول التي سبق وأن شهدت العلاقات المشتركة بينهما توترات كادت أن تفضي إلى صدام حقيقي، وعلى رأس تلك العلاقات العلاقات السعودية ـ المصرية، والسعودية الإماراتية، إلى عدة أسباب، وتتمثل أهم أسباب ذلك التغير فيما يلي:
1- تعارض السياسة الخارجية السعودية مع الرؤية الأمريكية لحل الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، وبدء خروج المملكة من الفلك الأمريكي، الأمر الذي كان من شأنه تسهيل سيطرة الحوثيين على اليمن، وإطلاق العنان لداعش لتهديد الداخل السعودي، وإثارة القلال والاضطرابات الداخلية في المملكة، والتي أسفرت عن حدوث عدة عمليات إرهابية أودت بحياة العشرات من الشعب السعودي، وهو ما لم يجد أمامه النظام السعودي من بد سوى رفع الراية البيضاء والإذعان مرة ثانية للإرادة الأمريكية والغربية، والتأكيد على عودته للسير تحت المظلة الأمريكية، وبما يحقق مصالح الطرفين خوفًا من خروج الأمور عن السيطرة والإضرار بمستقبل الأنظمة الخليجية في المنطقة.
2- الإقرار بقوة إيران الإقليمية والاعتراف بصعوبة الدخول في سباق صراع إقليمي معها، باعتبار أن ذلك يضر ضررًا بالغًا بمستقبل النظام السعودي، الذي بات محاطًا بحلفاء إيران في العراق واليمن وسوريا، وبالتالي فإن من مصلحته الحصول على تفاهمات مع إيران بشأن الأزمات المثارة في المنطقة، فما يهم النظام السعودي أن تكون امتداداته الإقليمية آمنة وخالية من وجود أي قوة موالية لإيران، خاصة وأن كل الدلائل كانت تشير إلى أن سر قوة جماعة الحوثي الدعم الكبير الذي كانت تحصل عليه من إيران، وأن استمرار ذلك الدعم من شأنه إطالة أمد الصراع وتكبيد المملكة خسائر فادحة في الأموال والأرواح، خاصة بعد فشل اعتمادها على شركائها القدامى في الحصول على قوات تساعدها في دحر جماعة الحوثي واستعادة الشرعية في اليمن، دون الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية.
3- الضغط الشديد الذي يتعرض له النظام السعودي من قبل نظيره الإماراتي لتعديل مساره وتغيير سياساته، باعتبار أن استعادة المسار الديموقراطي في أي دولة عربية يضر بمستقبل تلك الأنظمة، ويبشر بسرعة زوالها، لذلك كانت القوات الإماراتية صاحبة الدور الأكبر في استعادة عدن والسيطرة عليها، لتفويت الفرصة على جماعة الإصلاح صاحبة الدور الأكبر في المقاومة الشعبية، للعب دور فعال في مستقبل اليمن، وهي التي تبشر الآن بمشروع مارشال لتعمير اليمين وسوريا وليبيا، بعد أن تكون قد نجحت ـ حسب زعمهم ـ في تثبيت الأنظمة الموالية لهم في تلك الدول، وبما يحقق مصالحهم ومصالح شركائهم الغربيين في المنطقة.
4- فشل الرهان السعودي على جماعات الإسلام السياسي، سواء في مصر أو اليمن أو حتى سوريا، بعد أن أدت الضربات القاصمة التي تعرضوا لها، خاصة في مصر، للتأثير على قدرتهم في حسم الأزمات المشتعلة سواء في اليمن أو سوريا في بداية الأمر، وبالتالي عدم رغبة النظام السعودي في تحمل كلفة دعم تلك الحركات العالية، خاصة وأن الغرب وإسرائيل وحلفائهم في المنطقة يكنون لهم عداء شديدًا ويرفضون عودتهم أو حتى مشاركتهم في السلطة خلال الفترة المقبلة.
5- إبداء الإدارة الأمريكية الرغبة في الحفاظ على النظام السعودي وإنجاح حملته في اليمن، مقابل قبوله بدور إيراني في المنطقة، وبما لا يضر بالدور الأمريكي والصهيوني المستقبلي في الشرق الأوسط.
وفي ضوء تلك التطورات والتحولات التي تشهدها المنطقة، عمد النظام السعودي لتغيير سياساته والتنازل عن مواقفه الداعمة للمقاومة السورية، مقابل تحرير اليمن من جماعة الحوثي والحفاظ على أمنه واستقراره، حتى ولو كان ذلك على حساب مئات الآلاف من الأرواح التي أزهقت ولا تزال على يد الرئيس السوري بشار الأسد.
مبادرات بالجملة لحل الأزمة السورية
بعد فترة طويلة من الجمود السياسي تنطلق في سوريا نافورة المبادرات الهادفة لحل تلك الأزمة، فإيران وروسيا يبذلان جهودًا مضنية لحل الأزمة السورية بما يحافظ على نفوذهما في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، فبعد أيام قليلة من توقيع إيران لاتفاقها النووي مع الدول الغربية، قامت بإطلاق مبادرة لحل الأزمة السورية، تهدف في نهاية المطاف لتقسيم سوريا للإبقاء على مناطق نفوذها ونفوذ حليفها الروسي كما هي، وفي الوقت نفسه الحفاظ على المسار الأمريكي الساعي لتقسيم المنطقة وتفتيت أواصرها، لإدماج الكيان الصهيوني وتحويله من دولة صغيره لا دور لها إلى دولة قائدة في منطقة الشرق الأوسط.
وتأتي تلك التحركات بالتزامن مع تحركات عربية تسعى لتمهيد الأجواء للاتفاقيات المستقبلية التي ستكون المملكة جزءًا أساسيًا فيها، باعتبار أنها صاحب اليد الطولي الآن في دعم المقاومة السورية، والتي تعمل منذ بدء الأزمة السورية على التخلص من الرئيس السوري بشار الأسد، حيث تعتبره جزءًا من المشكلة وليس الحل.
فحسب العديد من الخبراء، تشهد الأزمة السورية حراكًا سياسيًا متزايدًا؛ ليس أمريكيًا ـ روسيًا وحسب، ولكن عربيًا كذلك؛ فوزير الخارجية، «وليد المعلم»، يزور العاصمة العمانية مسقط، ويلتقي وزير الخارجية العماني؛ والجنرال «علي مملوك»، أحد المساعدين الأمنيين الرئيسيين للأسد، يلتقي ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي، الأمير «محمد بن سلمان».
كما سبق وأعلنت حكومة «السبسي» في تونس عن إعادة فتح الممثلية التونسية في دمشق، في خطوة صريحة إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، التي كانت قطعت بقرار عربي لسحب الاعتراف بنظام «الأسد»، بعد تصاعد وتيرة الثورة السورية وتعهد النظام بحرب شاملة ضد شعبه.
وفي السياق نفسه، تؤكد مصادر عربية وثيقة الصلة بمجريات الأزمة السورية أن هناك توافقًا، يشمل مصر والإمارات والأردن وعمان، على إعادة العلاقات مع دمشق، بهدف البدء بإعادة تأهيل تدريجي لنظام "الأسد".
والملفت ـ حسب العديد من الخبراء ـ في هذا الحراك العربي المستجد تجاه دمشق، أنه يأتي في وقت اشتداد الخناق على النظام السوري وعلى مشروع التوسع الإيراني في المحيط العربي ــ خلال الشهور القليلة الماضية، حيث حقق الثوار السوريون تقدمًا كبيرًا في الجبهتين الشمالية والجنوبية، سيما في محافظتي إدلب ودرعا، اللتين توشكان على التحرر كلية من قوات النظام وشبيحته والميليشيات الشيعة المساندة له.
وربما كان خطاب «الأسد» الأخير، الذي اعترف للمرة الأولى بتراجع قواته عن مواقع مهمة في سبيل الحفاظ على مواقع أخرى، أبرز دليل على حجم الانهيارات العسكرية المتسارعة لقوات النظام وعجزها الملحوظ عن الوقوف أمام التحولات المتسارعة في ساحة المعركة.
وفي الواقع، إن هذا الحراك العربي هو في الواقع جزء من حراك دولي أوسع، تتقدمه واشنطن وموسكو، لإعادة استكشاف طريق الحل السياسي للصراع المتفاقم على سوريا، ويشير هؤلاء إلى أن إعلان طهران مؤخرًا عن مبادرة إيرانية جديدة للتوصل إلى حل الأزمة السورية، ليس سوى انعكاس لإدراك روسي ـ إيراني بأن وجود الأسد، على الأقل خلال الفترة المقبلة، ضروري لضمان انتقال سياسي آمن في سوريا، وذلك بالتوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلن وزير خارجيتها جون كيري، أن "على الولايات المتحدة وحلفائها أن يتفاوضوا مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد من أجل انتقال سياسي بسوريا".
وهو أمر يشي بتغير الموقف الأميركي، ومعه الموقف الغربي، إزاء نظام الأسد، حيث تفادى كيري عبارة "فاقد الشرعية"، التي عادة ما كان يرددها المسؤولون الغربيون، حين يأتون على ذكر الأسد، بالرغم من أنهم كانوا يرددونها، بوصفها لفظًا، يفترق عن حمولاته المضمونية.
تناقضات السياسة الخارجية للمملكة
يلحظ المتتبع للسياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية خلال الفترة الأخيرة، وبالتحديد بعد تولي الملك سلمان زمام الأمور بعد رحيل العاهل السابق الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أنها تشهد تناقضات جذرية وتحولات قليلًا ما نشهدها في السياسة الخارجية لأي دولة، فحسب خبراء السياسة لا يحدث التغيير الجذري في السياسة الخارجية إلا نادرًا، وقد يؤدي إلى مخاطر جسيمة بالدولة، مثلما حدث عندما قام الرئيس المصري أنور السادات بطرد الخبراء السوفييت من مصر، وتحويل سياسة مصر الخارجية ناحية الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، اعتقادًا منه بأن 99 % من أوراق اللعب في المنطقة في يد الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما استتبعه قيامه بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني.
فبعد أن لاحظ المتابعون للشأن السعودي بدء النظام السعودي الجديد في اتخاذ خطوات بعيدًا عن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن اكتشف أنها ضحت بتحالفها معه واستبدلته بتحالف جديد مع عدوها التقليدي النظام الإيراني، عادت لسابق عهدها مرة أخرى، وبدأت التدشين لمرحلة جديدة من علاقات التبعية، ليس فقط مع الحليف الأمريكي الذي رفض خروج المملكة عن المسار المرسوم، ولكن إيرانيًا كذلك بعد أن أيقنت أن الوجود الإيراني في المنطقة يتطلب التعايش وليس العداء، وأن الأفضل بالنسبة للدولتين تبادل الأدوار بدلًا من الصراع على مناطق النفوذ في المنطقة، خاصة وأن ذلك يضر بمصالح الجميع، ويهدد بسقوط تلك الأنظمة عن عروشها.
فقد كشف المغرد السعودي الشهير «مجتهد»، عن مخطط رباعي مصري إمارات أردني عماني لإعادة تأهيل نظام «بشار الأسد» في سوريا، مشيرًا إلى جهود يبذلها ولي عهد أبوظبي الشيخ «محمد بن زايد» لإقناع الأمير «محمد بن سلمان» بقبول بقاء «الأسد»، وعدم معارضة السعودية لذلك، وهو ما تعهد به «بن سلمان» في لقائه بمدير المخابرات السورية الشهر الماضي.
وبحسب «مجتهد»، فإن "لقاء بن سلمان مع علي مملوك رئيس المخابرات السورية جزء من هذا الترتيب"، وقد سبق وأن كشفت صحيفة (صنداي تايمز) البريطانية عن مسؤول سوري بارز تأكيده زيارة مدير المخابرات السورية الجنرال «علي مملوك»، إلى العاصمة السعودية الرياض، وذلك بناء على توصية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأكد «مجتهد» أن «محمد بن سلمان» وعد بأن المملكة لن تعترض على إعادة تأهيل للنظام السوري وعودة السفراء لأي دولة «بشرط أن تؤجل مشاركة السعودية في هذا الترتيب».
وقد تلى تلك الزيارة طرح وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف»، في الاجتماع الذي عقد في الدوحة لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بحضور وزير الخارجية الأميركي «جون كيري»، مبادرة الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» التي تدعو إلى تشكيل حلف إقليمي يجمع دول الخليج وتركيا مع نظام الرئيس السوري «بشار الأسد»، في مواجهة المجموعات المتشددة، وعلى رأسها تنظيم «الدولة الإسلامية».
وسعى «لافروف» لإقناع نظرائه بأن يقبلوا العمل مع نظام «الأسد» لمحاربة الإرهاب، بينما يقبل «الأسد» بدوره الدخول في مرحلة انتقالية تتضمن تشكيل حكومة توافقية برئاسة شخصية من المعارضة، وتؤدي في النهاية إلى رحيل «الأسد» وبدء انتخابات برلمانية ورئاسية.
وتأتي تلك الزيارات، بالرغم من تأكيد بعض المقربين من دوائر صنع القرار في السعودية عدم تخلي السعودية عن المقاومة السورية، وتمسكها بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، حيث نفى الكاتب جمال خاشقجي، في مقال له بجريدة الحياة اللندنية، وبشكل قاطع حصول أي زيارة لمسؤول سوري للمملكة، مؤكدًا أن (بشار الأسد) لن يكون له دور في أي حل مستقبلي" في سوريا.
وحسب الخبراء، يعود التخبط في السياسة الخارجية السعودية إلى عدة أسباب أهمها:
أولا: التورط السعودي في اليمن، والذي كان مرشحا لأن يطول لسنوات، وربما لعقود، ما لم تقم المملكة بتوثيق العلاقات مع موسكو، للتوصل إلى "تفاهم" مع طهران حول هذا الملف وملفات أخرى ساخنة في المنطقة، وهذاـ على ما يبدوـ ما قامت به المملكة في الفترة الأخيرة على حساب دورها في سوريا، فزيارة الأمير بن سلمان إلى موسكو ولقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 29 (يونيو) الماضي، شكلت الأرضية الصلبة لصياغة جديدة لخريطة التحالفات في المنطقة، عنوانها الرئيسي بقاء الدولة السورية، والنظام الحاكم على رأسها، وربما بقاء الرئيس الأسد أيضًا لفترة تطول أو تقصر، حسب توافق الأطراف الثلاثة.
ثانيًا: خروج تنظيم "الدولة الإسلامية" عن السيطرة، وتهديده الرياض، ومعظم دول المنطقة، وحالة التعبئة العسكرية المكثفة هذه الأيام على الحدود السعودية الشمالية مع العراق، تؤكد هذه الحقيقة.
ثالثًا: عودة الحوار الاستراتيجي المصري الأمريكي إلى سابق عهده بعد زيارة كيري إلى القاهرة، والقاهرة تمسك العصا من الوسط في الأزمة السورية، وتتقارب بصمت إيجابي مع إيران.
رابعًا: تراجع الدور التركي، ودخول السلطات التركية في صراع مرير مع الأكراد وحزب العمال الكردستاني، الأمر الذي قد تترتب عليه مراجعة جذرية للموقف التركي المطالب بإسقاط النظام السوري.
خامسًا: قناعة السعودية وإيران بعدم إمكانية الحسم العسكري، أو على الأقل تحقيق نصر عسكري يمكن ترجمته سياسيًا، وانتقالهما إلى التوافق حول ضرورة إيجاد حل للأزمتين السورية واليمنية، مع ضرورة الحفاظ على بنية الدولتين ومكتسباتهما.
سادسًا: رفض الولايات المتحدة توسيع العمليات العسكرية للمعارضة المسلحة نحو دمشق والساحل، وعملها على الإبقاء على الوضع الميداني الحالي، دون تجاوزه نحو تغيرات من شأنها أن تبدل طبيعة المعادلة القائمة على الأرض، مع استمرار عمليات الاستنزاف لكلا الطرفين.
إيران تتخلى عن الحوثيين
حسب العديد من الخبراء، تشير التطورات الجارية في اليمن وسوريا إلى أن هناك ترتيبات لحلحلة ملفات المنطقة بعد الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الغربية ومن بينها اليمن، وأن هذه الترتيبات تقضي بأن توقف إيران دعم الحوثيين بالسلاح على أن يتحولوا لحزب سياسي، بعد أن يتم تغيير قياداته المتورطة في أعمال وجرائم ضد اليمنيين.
كما يقضي الاتفاق الذي سترعاه دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية، أن يخرج الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، من اليمن بعد أن يعلن إنهاء تحالفه مع الحوثي ويتجه للإمارات العربية المتحدة، حيث سيخضع للإقامة الجبرية هو وأبرز أفراد عائلته، على أن لا يمارس أي عمل سياسي أو حزبي، وأن لا يظهر على وسائل الإعلام، على أن تضمن دولة الإمارات تنفيذ هذا الجزء من الاتفاق.
وبالنسبة لوضع الرئيس هادي، يشير البعض إلى أنه بات ينظر إليه كجزء من مشكلة اليمن وليس جزءًا من الحل، لذلك يتوقع بأن يقوم بنقل صلاحياته لنائبة خالد بحاح، وأن لا يعود هادي لليمن مطلقًا، على أن يتولى بحاح قيادة المرحلة المقبلة كرئيس مؤقت لحين إجراء انتخابات رئاسية في البلاد.
وفي السياق نفسه، أشارت وسائل إعلام إيرانية مقربة من النظام، إلى أن السعودية قامت مؤخرًا بإرسال رسالة سرية إلى طهران بشأن تسوية للأزمة اليمنية، مشيرة إلى أن هذه التسوية تقضي بوقف دعم إيران لحركة أنصار الله الحوثية، مقابل تخلي السعودية عن دعمها للجماعات السورية المعارضة لنظام الأسد.
وقد كشف الدبلوماسي الإيراني السابق "صادق خرازي" في حديثه للقناة التلفزيونية الإيرانية السادسة، عن تفاصيل تلك الرسالة التي بعثتها السعودية إلى إيران، وأكدت فيها أنها "ستكف عن التدخل في الشؤون السورية، مقابل تخلي إيران عن دعم الحوثيين"، مشيرًا إلى أن السعودية تحاول منذ فترة التنسيق مع إيران لحل مشاكلها، حيث إنها لن تستطيع من خلال جيش تستأجره أو قوات برية تعمل لها مقابل أموال، حل المشاكل التي تواجهها بسبب حربها على اليمن منذ أكثر من 115 يومًا.
وكان وزير الخارجية اليمني رياض ياسين، قد أشار في حديث له عن تأثر العلاقة بين إيران وميليشيات الحوثي، بسبب إعادة إيران لحساباتها بعد الاتفاق النووي مع الغرب، والذي يتطلب منها تحسين سلوكها والتحرر من مثل تلك الالتزامات التي لا تعود عليها بالنفع.
ومن جانبه أكد القيادي في جماعة الحوثي "علي البخيتي"، أن أبرز حلفاء الحوثيين، طهران وموسكو، انقلبا على الجماعة بعد إعلانهم الدستوري، ولم تعترف كل من طهران وموسكو باللجنة الثورية.
وأضاف البخيتي أن قيادات الجماعة عادوا من زياراتهم المكوكية إلى روسيا وطهران بخفي حنين، وإن كان ظاهر تلك الزيارات النجاح، لكن باطنها فشل ذريع وصدمة لأنصار الله الحديثي عهد بالسياسية، وبالأخص في العلاقات الدولية.
وفي الواقع أن التحول في الموقف الإيراني يعود إلى العديد من الأسباب، أهمها:
1- طمأنة دول الخليج المتوجسة خيفة منها عقب توقيعها لاتفاقها النووي مع القوى الغربية، بأنها ليست لها أطماع في دول الخليج– على الاقل في الوقت الراهن حتى تضمن قيام الولايات المتحدة بفك الحصار الاقتصادي المفروض عليها، وفي الوقت نفسه تحسين علاقاتها مع دول الخليج بعد أن تضررت كثيرًا خلال الفترة الماضية.
2- ما يهم إيران في حقيقة الأمر ليس اليمن وإنما سوريا، فهي من ناحية تريد أن تحافظ على مشروع الهلال الشيعي قائمًا دون انهيار، وفي الوقت نفسه ترغب في الحفاظ على حزب الله اللبناني وامتداداته في سوريا من ناحية الشمال، وهو ما ستحصل عليه بعد اتفاقها الأخير مع المملكة، وبذلك لا تكون قد خسرت كثيرًا، خاصة وأن اليمن لم تكن في حسابات إيران، وإنما فرضت عليها الظروف مساعدة جماعة الحوثي لتخفيف الدعم السعودي المقدم للمقاومة السورية.
3- تحتاج إيران إلى هدنة لالتقاط الأنفاس بعد صراعها الطويل والمرير مع الغرب بسبب برنامجها النووي، تقوم خلالها بإعادة ترتيب البيت الداخلي والانطلاق بقوى مرة ثانية إلى الخارج، بعد أن يكون الجميع قد اطمأن إلى تغير سياساتها الخارجية عقب توقيع الاتفاق النووي.
4- الحفاظ على دورها الإقليمي في المنطقة، وكسب ود القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي دخلت في تحالف غير معلن معها، والعمل على استعادة دورها القديم كشرطي أمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
5- استعادة ثقة الرأي العام العربي، وخاصة الخليجي الذي بات ينظر للخطر الإيراني على أنه يفوق بمراحل الخطر الصهيوني المتربص بأمن واستقرار المنطقة، حتى تتمكن من نشر التشيع من جديد في المنطقة.
ويعني ذلك أن التحول الذي تشهده السياسة الخارجية السعودية إنما يصب بشكل أساسي في صالح النظام السعودي، وإن كان ذلك على حساب الشعبين: السوري الذي بات عليه أن يناضل بسواعده للخلاص والتحرر دون الاعتماد على أي دعم خارجي، بعد أن بات واضحًا أن جميع الداعمين إنما يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة، حتى وإن كان ذلك على حساب أرواح المئات الذين يسقطون كل يوم دون ذنب أو جريرة. الأمر نفسه بالنسبة للشعب اليمني، الذي يخشى أن تستبدل سيطرة الحوثي على البلاد بسيطرة إماراتية وسعودية على مقدرات البلاد، وبذلك تضيع الثورة وتضيع مكتسبات الشعب الذي ضحى بنفسه من أجل الحرية والديموقراطية والكرامة الإنسانية.