أتلانتكو - جيرار شاليان-
مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق وسوريا، عادت "القضية الكردية" إلى دائرة الضوء مجددًا منذ صيف 2014، وفي كتاب "المسألة الكردية في زمن داعش" يحاول الكاتب الأكاديمي الفرنسي "جيرار شاليان"، تلمس ملامح المشهد الشرق أوسطي الذي يمر الآن بتحولات بالغة الصعوبة، وخاصة بعد ظهور الجماعات المسلحة وخروجها عن السيطرة.
وهنا استعراض لأحد فصول الكتاب، ويحاول فيه الكاتب الفرنسي فهم الدور السعودي في تأسيس ودعم الحركات المسلحة لخدمة سياساتها ومصالحها الخاصة، والتي تنطلق من التصدي للمخططات الإيرانية، والحفاظ على الزعامة السعودية للعالم الإسلامي.
لفهم أسباب الصراع الإقليمي الحالي، فمن الضروري أولًا تسليط الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه المملكة العربية السعودية. فهي التي كانت، منذ أزمة النفط الأولى (1973-1974)، وربما قبل ذلك، ترعى التيار المحافظ وتعمل على إعادة نشر الحركات الإسلامية من غرب إفريقيا إلى إندونيسيا. لقد رأيت واحدة من العلامات الأولى لذلك عن طريق المصادفة خلال عام 1977، حين كنت أصور فيلمًا في كوت ديفوار، وزرت إحدى المدارس، ورأيت لأول مرة خريطة العالم موضحًا عليها ما سمي بـ "العالم الإسلامي" باللون الأخضر.
وذهلت حين عرفت أن المعلم يعطيهم دروس الجغرافيا على هذه الخريطة في تلك الدولة الإفريقية، التي ظلت تحت السيطرة الفرنسية لعقود، وأوضح لي المعلم أنه حصل على منحة لمدة سنتين مقدمة من السعودية. كما أنه قد درس في جامعة الأزهر الشريف في مصر، حيث تدرس فيها تاريخ وجغرافيا العالم الإسلامي ومكانته البارزة في العالم.
ومنذ ذلك الوقت، الذي تضاعفت بعده أسعار النفط أربعة أضعاف، لم تتوقف السعودية الراعية للحرمين في مكة والمدينة، عن إرسال الدعاة وبناء المساجد ودعم الجماعات الإسلامية التي تتبنى الفكر الوهابي.
الفكر السعودي
وقبل ذلك، وبدعم من الولايات المتحدة، كانت السعودية تعارض الحركات الناصرية والقومية، مثلما حدث في اليمن وبقية دول الشرق الأوسط. وكانت السياسة المحافظة التي تروج لها المملكة تتناسب مع سياسات الولايات المتحدة، التي وجدت فيها حليفًا ضد الشيوعية في العالم الإسلامي (فضلًا عن أنه يحقق مصالحها النفطية).
في الشرق الأوسط، فشلت الأفكار الناصرية والمناهج الاشتراكية العربية، وهو ما جعل الأنظمة القائمة حاليًا أمام تحد أكبر وهو الحركات الإسلامية.
أما التهديد الذي يواجه الرياض فيأتي غالبًا من طهران، بسبب الخلاف القديم بين السنة والشيعة. وتسببت ثورة الخميني في إيران عام 1979 في تجديد هذا الخلاف، الذي يشكل معلمًا بارزًا في توجهات الحركات الإسلامية حاليًا.
وتسعى المملكة العربية السعودية للحفاظ على زعامتها للعالم الإسلامي، ولذلك تجد عداوة من طهران الشيعية والفارسية، التي تحاول أن تتولى هي الأخرى قيادة العالم الإسلامي بادعاء الوقوف في وجه الإمبريالية الأمريكية، وتتبني معاداة الصهيونية. إلا أن إيران معزولة عن محيطها العربي والخليجي منذ حربها مع العراق بين عامي (1980-1988).
ظهور الجهاديين
وفي نهاية عام 1979، سعت المملكة العربية السعودية لمعارضة التدخل السوفيتي في أفغانستان عن طريق عدد من التنظيمات، التي كان يقدم لها أيضًا دعمًا لوجستيًا من باكستان والولايات المتحدة، إنهم "الجهاديون السنة" الذين عادوا إلى العصر الحديث عبر بوابة القتال في أفغانستان.
وفي أفغانستان، قررت الولايات المتحدة تقديم الدعم لمختلف مكونات المعارضة، ومن بينهم الحركات الإسلامية الأصولية، مثل حركة قلب الدين حكمتيار التي تحولت ضدها في وقت لاحق، وكذلك أسامة بن لادن، بمجرد الانتهاء من الصراع مع الاتحاد السوفيتي.
وهكذا توجهت الهجمات الجهادية الأولى نحو المصالح الأمريكية في العالم: مثل حادث مركز التجارة العالمي في نيويورك في عام 1993 (سبعة عشر قتيلًا). ثم في الرياض والخبر بالمملكة العربية السعودية في عامي 1995 و 1996 (أربعة وعشرين حالة وفاة). والهجوم على سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في عام 1998، وحادث المدمرة الأمريكية كول في عدن عام 2000، ثم هجمات 11 سبتمبر عام 2001...
وتزامن هجوم نيويورك مع صعود قوة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بقيادة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي، وبول وولفويتز نائب وزير الدفاع وقتها. وقادوا حملة عقابية على أفغانستان، التي مهدت للإعداد السياسي والدبلوماسي والنفسي لتنفيذ مخطط المحافظين الجدد ومشروعهم في "إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير".
ومنذ ذلك الوقت فإن "الحرب لم تنته"، واستخدمت كل المبررات للتدخل في دول المنطقة، مثل محاربة الدكتاتورية ونزع أسلحة الدمار الشامل، وحماية أمن إسرائيل. إلا أن هذا المشروع باء بالفشل الذريع.
معارك العراق
وكان عدم وفاء الولايات المتحدة لوعودها في العراق مذهلًا: مثل عدم فعالية قوات الاحتلال، ونقص المعلومات لديها، واعتمادها على قوى غير نظامية، كما أنها قامت بعزل أعضاء حزب البعث بجميع مستوياتهم من قبل لجنة برئاسة أحمد الجلبي، في حين فتحت الباب أمام دور غامض للشيعة الذين حصلوا على الثقة الأمريكية.
في الوقت نفسه، كانت إيران نشطة جدًا في العراق وتمهد الأرض لخدمة مصالحها الخاصة. بينما كان الحاكم الأمريكي بول بريمر، يساهم بقوة في تهميش أهل السنة، وبحلول عام 2004، وقعت معارك عنيفة بين الجيش الأمريكي مع المقاومة السنية مثلما حدث في الفلوجة، كما أن الميليشيات الشيعية التي تشكلت في إيران شاركت أيضًا في المعارك.
وفي العام نفسه، بعدما ثبت عدم قدرة الأمريكيين على استعادة النظام وفشلوا في إعادة تشغيل الكهرباء، واجهت السلطات الأمريكية فضيحة سجن أبو غريب. وظهرت صور الإذلال الجنسي للسجناء العراقيين. وكانت هذه حربًا نفسية تردد صداها في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وانتشر تساؤل: كيف يمكن لأمريكا أن تدعي نشرها للديمقراطية بينما تقوم بممارسات من هذا النوع؟
تنظيم القاعدة، الذي لم يكن موجودًا في العراق خلال فترة صدام حسين، وجد في البيئة العراقية الجديدة فرصة كبيرة للظهور والنمو، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، ومباركة أيمن الظواهري الذي أعلن تشكيل "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، مما ساهم في تفاقم العداوة بين السنة والشيعة، كما أغرقت البلاد في حالة من الفوضى.
وخلال عام 2007، اتخذ الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس، تدابير جديدة لمحاربة تنظيم القاعدة معتمدًا على جمع القبائل السنية لمحاربة التنظيم، إضافة إلى تشكيل سلطة جديدة بقيادة رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي، الذي حارب الحركات السنية بشكل عنيف.
وخلال السنوات التي قضاها في السلطة، ركز نوري المالكي على السيطرة على وزارات الداخلية والدفاع وسعى لتهميش السنة، وما زالت هذه السياسة مستمرة إلى اليوم. وعلى هامش سلطته أيضًا انتشرت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، والتي شكلت جيشا موازيًا. لكن هذا الوضع أدى إلى أن الجماعات السنية رفضت نزع سلاحها واستمرت في المقاومة.
داعش بين الحاضر والمستقبل
هذ التهميش السياسي للسنة منذ سقوط صدام حسين في العراق، ومنذ أربعة عقود في سوريا، هو من أبرز أسباب النزاع وظهور حركات إسلامية معادية للغرب، كان أعنفها تنظيم "داعش"، بسبب استفادته من إرث المقاومة التي ظهرت في العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003.
ويرجع تفرد حركة "داعش" عن غيرها من الحركات إلى أن ظاهرة الجهاد- والتي ظلت محصورة منذ قيام تنظيم القاعدة بأعمال العنف- أصبحت قادرة على السيطرة على الأراضي والاستحواذ عليها، وأنها جعلت أيديولوجية الجهاد راسخة بشكل أكبر في أذهان الشباب.. وقد أصبح هذا التحول ممكنًا بسبب الحرب الأهلية في سوريا، والتي سمحت لتشكيلات جهادية أخرى، مثل جبهة النصرة المنتمية للقاعدة بالتسلح.
وحتى الآن فإن الجهود التي يبذلها الأمريكيون وحلفاؤهم لم تنجح في إيقاف قدرة وكفاءة "داعش" الهجومية. ورغم ذلك لا أشك في أن العقيدة الجهادية مصيرها الإخفاق. ولكنها تستقطب شبابًا مضطربًا يمر بأزمة هوية، أو يرغب في المغامرة. ولا مفر من انتقال تداعيات ظهور "داعش" في العراق وسوريا إلى فرنسا وبريطانيا.
وأستطيع أن أقول إن الحركة الجهادية الحالية أمام طريق مسدود. فهي تفتقر إلى مشروع اقتصادي واجتماعي، وهي تنشغل اليوم في إدارة العادات ومطابقتها المعايير الشرعية فحسب، وهي تثير جلبة كثيرة لا فائدة منها. فهي على خلاف نهج النمو الصبور للصين، أو النهج الإصلاحي للهند، أو النهج الإيراني الذي قادها إلى التفاوض في الملف النووي.