تواصل » صحف ومجلات

حرية التعبير التي لا تُحتمل

في 2015/09/16

عصمت الموسوي- الوسط-  

حرية التعبير في الغرب مقدسة لا يسمح بانتهاكها، أما في الشرق فهناك جهات مقدسة وعناصر مقدسة وثروات مقدسة لا علاقة لها بالأديان السماوية المعروفة، بل بالواقع الاجتماعي المرتبط بشبكة المصالح والمنافع المادية، مثل هذه الجهات لا يسمح بالاقتراب منها أو ملامستها ناهيك عن نقدها. في الغرب يفككون منظومة «التحريم» والمسكوت عنه، ويقلصونه يوما بعد يوم؛ من اجل ألا يتعلق اي شخص بتلابيب القداسة والتحريم والممنوع، فيفلت من النقد ومن المساءلة والمحاسبة وحكم القانون فيفسد ويتعفن. هنا في هذه المنطقة من العالم يكتسب الشخص او المكان صفة القداسة لأسباب دينية أو مذهبية وتاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ثم تتكرس هذه القداسة عبر القوانين والتشريعات والأعراف، فتلقي بظلالها على حرية التعبير وتكبلها وتعيقها وتحول دون انسيابها وتمنع أداءها وظائفها الاساسية.

ما إن نقول حرية التعبير حتى يقفز الى الذهن سلوك الحكومات والانظمة ذات النصيب الاكبر في تكبيل حرية التعبير، بما تمتلكه من هيمنة وسيطرة شاملة ومحكمة على كل مفاصل الدولة وفضاء الإعلام والكلمة، وبسبب ما يوجد في سجونها من معتقلي رأي وما تحويه قوانينها من مواد مقيدة وبعيدة عن المعايير المعاصرة الدولية.

بيد أنني اليوم سأتحدث ايضا عن حرية التعبير في اوساط الناس والمثقفين، بل ودعاة حرية التعبير انفسهم، فهذه الحرية وما تعنيه من قبول الآخر وسماع وجهة نظره، ومنحه المجال والأمان ليعبر عما يريد قوله، إن هي إلا شعارات وأقوال موجودة في النصوص فحسب، لكن عند التطبيق الحقيقي نفشل فيها ونحقق اصفارا، نخاصم ونعادي من يختلف معنا، ونسمه بالألقاب المهينة الحاطة من شأنه، نختبئ خلف الأسماء المستعارة في وسائل التواصل الاجتماعي وحساب التغريدات، لا خشية العقاب من حرية التعبير فحسب، ولكن كي نطعن في خصومنا ونفضح أسرارهم الخاصة، ننسحب من «غروبات الواتس اب» اذا خالفنا أحد في الرأي، نقيم الحواجز و»البلوكات» لمنع المختلفين معنا من التعبير عن آرائهم في مواقفنا وأفكارنا، نقول عن أنفسنا مثقفين، ونتابع عبر حسابات التواصل الاجتماعي «الفيس بوك» و»توتر» فقط (جماعتنا) ومن يلاقي هواهم هوانا ومزاجنا، نقيم الندوات ذات اللون الواحد كي نسمع بعضنا بعضا فقط، ونشاهد البرامج التلفزيونية الاحادية الرأي التي يحاور فيها المذيع نفسه ويتحدث نيابة عن الآخر، ونقرأ الصحف ذات اللون الواحد ونصادق فقط من يتشابه معنا فكريا وسياسيا، وننام ونحن مطمئنون بعد أن استمعنا الى ما يريحنا ويبعد عنا مغبة وعبء الاستماع الى الآخر، هذا الآخر الذي ندعي أننا نعرفه أكثر مما يعرف هو عن نفسه... ذات مرة سألت مذيعة في أحد البرامج الحوارية العربية مشاركا: من أين تستقي معلوماتك؟ فقال: من تلفزيون بلدي وإعلامه، وهذا يكفيني. ثم لماذا أوجع رأسي بالآخر ورأيه؟ نعم، يبدو الرأي الآخر المغاير لنا حملا ثقيلا لا يحتمل ولا يطاق، ولا يرى بوصفه مصدرا للمعرفة الأشمل ذات الأبعاد المختلفة التي تثري المرء وتوسع مداركه وتجعله اكثر انفتاحا ومرونة، وسعة صدر، وقبولا للمختلف من أي طيف كان، وحتى إن كان هذا الآخر عدوا، أفليس الأجدر أن نعرفه كما تقول الحكمة القديمة؟ أليس بضدها تعرف الأشياء؟ دون أن نجري مراجعة شاملة وصريحة ودقيقة وشفافة لمجمل مواقفنا وممارساتنا؛ فسوف نسقط كل يوم في هذا الاختبار، وتتباعد المسافات والمشتركات بيننا، وننأى عن الاختلاف الجميل الذي يجدر ألا يفسد للود قضية، ولا يجرم الرأي المختلف، بل يسهم في تغيير وارتقاء الوعي المجتمعي والتحول الديمقراطي.