نبيلة حسني محجوب
على مرِّ التاريخ تعرّض بيت الله الحرام لمداهمة السيول، التي أغرقت البشر، وخلَّفت مآسي؛ (أكثر من 70 سيلاً، كان أشهرها عام 1040 هجرية 1630 ميلادية، تسبّب السيل في مصرع العشرات، وانهيار جزء من جدار الكعبة، كذلك عام 1941م). أورد هذا للتأكيد على أن التقلبات المناخية يجب أن توضع في الحسبان، خصوصًا في مشروع عملاق كهذا، ونحن نمتلك إمكانيات استثمرت للتوسعة الثالثة والأكبر في تاريخ توسعة الحرمين الشريفين. كان يمكن توجيه الرافعات العملاقة إلى خارج منطقة الحرم في موسم الحج، والتقلبات المناخية الشديدة التي تشهدها المنطقة، فالاحتمالات مفتوحة في مثل هذا المناخ الذي تتابع فيه الصواعق بشكل مخيف، واحتمال تعرّض الرافعة لصاعقة؛ احتمال وارد، لذلك أتعجّب من نفي أحد المسؤولين لهذا الاحتمال قبل أن ينتهي التحقيق، وتفحُّص أجزاء الرافعة لمعرفة أسباب السقوط المرعب!
كما أستغرب ربط الأمر بجهات معادية، وشماتة الشامتين الذين لا يعجبهم العجب، فأنت لا تعرف ماذا يريدون من هذه الاتِّهامات والتكهنات التي أربأ بقلمي عن الخوض فيها ونشرها، لكن على رأي المثل المكيّ: (اللي ما يدري يقول عدس)، أكرر لا أستبعد الخطأ والإهمال، ولابد من التحقيق الذي بدأ فعلاً -كما وجه أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل- ومحاسبة المخطئ -كما قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان-.
بالتأكيد لا أحد تخيّل سقوط الرافعة العملاقة التي يبلغ ارتفاعها «200م»، لكن الواقع أكبر من الخيال، فالواقع في مثل هذه الحوادث المأساوية المباغتة، لا يمكن أن يتخيّله أعظم فنان، بل أصبح الخيال يستجيب لمقتضيات الواقع، ويُحلِّق داخله لا خارجه في أفق مفتوح كما نتصوّر، ربما لأن الواقع وأحداثه أكبر من قدرة الإنسان على التخيّل، ونسج حدث يُماثل اختفاء طائرة مثلاً، أو غرق تايتنك، أو الأوضاع في سوريا، حتّى الحرب الأهلية اللبنانية اشتغل خيال الروائيين على أحداثها ومآسيها، والتنظيمات الإرهابية على مرِّ التاريخ لم يبتكرها خيال مبدع، ولكنها أصبحت موردًا ثريًّا ينهل منه خيال الروائيين، والسينمائيين، وكتّاب الدراما.
الحادث الذي أودى بحياة 107 أشخاص بين ساجد، وطائف، وساعٍ، ومسبِّحٍ، وغافٍ في بيت الله الحرام، من مختلف الجنسيات التي توافدت من أقطار العالم لتأدية فريضة الحج -نحتسبهم شهداء عند ربهم- في عصر يوم الجمعة 11 سبتمبر، فاستبقت التكهنات والربط بين أحداث برجي التجارة العالمي في نيويورك 11 سبتمبر 2001م وهذا الحدث، دون معرفة تفاصيل المناخ العاصف الماطر في مكة المكرمة تلك اللحظات الرهيبة التي اكتملت بمشهد سقوط الرافعة على الجزء الشرقي من الطواف والمسعى، لا أحاول تبرئة أحد من المسؤولية، ولا إحالة الحادثة إلى أمر غيبي، لأن الحادثة لا يمكن أن تمر دون خطأ بشري مهما كانت نسبته ضئيلة، إلاَّ أن رافعة بهذه الضخامة، وهذا الحجم كان لابد أن يتم إنزالها، أو التأكّد من سلامتها، طالما أن أعمال التوسعة قد توقَّفت قبل يوم واحد من سقوطها تحسبًا لأي طارئ مناخي.
لا شك أن الحكومة السعودية تبذل وسعها لخدمة وسلامة ضيوف الرحمن، وحادثة كهذه رغم بشاعتها ومأساويتها لا يمكن أن تمس هذا الجهد المضاعف من كافة أجهزة الدولة، ولا يمكن لأي عاقل أن يجير هذا الحادث إلى الفساد، لأن الرافعة صناعة ألمانية، ويديرها ألماني مسلم، لكن لا يمكن أيضًا الاتّكاء على تصريح مسؤول في المؤسسة المنوط بها المشروع بأنها (قضاء وقدر)، لأن هناك مسؤولية بقدرٍ ما، على المسؤولين عن التشغيل، المتابعة، الأمن والسلامة، الدفاع المدني، شؤون الحرمين.