رائد السمهوري- الوطن-
لا شيء يفرح الأعداء والشامتين أكثر من أن تدب الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، فيتدسسون إليه بأيديهم القذرة، وبفهم أسس الوحدة الوطنية، من الدين، واللغة، والمشتركات، يقف الجميع سدًا منيعًا أمام كل صاحب فتنة
الوطن وعاء لساكنيه، يقف فيه الجميع سواسيةً أمام القانون، كل له حق، وكلٌ عليه واجب، ومن المحال عقلاً أن يكون أبناء وطن واحد بلغوا الملايين، من المحال أن يكونوا جميعًا نسخًا متشابهة تتفق في كل شيء.
وإذا كان الوطن واسعًا متمدد الأرجاء، مترامي الأطراف؛ فلا بدّ من شيء من تفاوت في العوائد والتقاليد واللهجات على امتداد هذه الأرض المتسعة طولاً وعرضًا، وارتفاعًا وعمقًا.
نتفق في الدين، ولكن ربما نختلف في المذاهب الفقهية والعقائدية، ففي الأحساء مالكية وحنابلة، وفي الحجاز اجتمعت المذاهب الأربعة كلها.
وقد ذكر الشيخ صالح الحصين يرحمه الله في مقالة من مقالاته أن من أئمة الحرم المكي الأوائل المشايخ: عمر باجنيد الشافعي، وعمر فقي الشافعي، وعباس صدقة الحنفي، وعبدالملك مرداد الحنفي، ومحمد أمين فوده المالكي، وعبدالله بن حسن آل الشيخ الحنبلي.
وفي المسجد النبوي: الشيخ محمد خليل الشافعي، والشيخ أسعد الحنفي، والشيخ مولود المالكي، والشيخ محمد عبدالله التمبكتي المالكي، والشيخ الحميدي الحنبلي، والشيخ صالح الزغيبي الحنبلي، وكذا الشيخ عبدالمجيد حسن جبرتي الشافعي، والشيخ محمد ثاني علي المالكي.
وكان في الحرم المكي أربعة محاريب لكل إمام منتمٍ إلى مذهب من مذاهب أهل السنّة الفقهية، كانوا يصلون في وقت واحد، ولا تسل عن الخلط المربك للمأمومين حتى أزال الملك عبدالعزيز يرحمه الله هذه البدعة.
وذكر الشيخ صالح الحصين كذلك أن المدرسين في الحرمين -على اختلاف مذاهبهم- أضحوا يتناولون آراء المذاهب الفقهية بالتوقير والاحترام، دون تعصب لمذهب على مذهب، وربما اختار المدرّس الحنبلي كتابًا لمؤلف شافعي يقوم بشرحه للطلاب، كالرحبية وبلوغ المرام مثلاً ومؤلفاهما شافعيان.
هذا على المستوى الفقهي، أما في الجانب العقدي فمعلوم أن عامة الشافعية والمالكية أشاعرة المذهب، وعامّة الأحناف ماتريدية، وكلا الفريقين من أهل السنّة، ولا يخفى أن في المملكة شيعةً منهم إمامية، ومنهم إسماعيلية.
والحالة العامّة في أصحاب هاتيك المذاهب أنهم عربٌ من العرب، فهم أبناء قبائل عريقة، ممتدة الوجود منذ قرون في مناطقها، وكلهم يلبس الثوب والشماغ، وجميعهم رددوا وهم صغار -ويردد أبناؤهم الآن- النشيد الوطني في المدارس، ويحملون جواز السفر الأخضر، ويتوظفون في القطاعات كلها، ويتشابهون في القلق على مستقبل أبنائهم، ويسعون للرزق، ويعيشون حياة كريمة في ظل وطن واحد، وقانون عادل كشأن كل منتمٍ لوطن في بلاد الله.
الدين واحد، واللغة واحدة، والعوائد متشابهة: غيرة ونخوة وضيافة ونجدة، على رغم اختلافات طبيعية لا تضر أحدًا، ولا تهدد أمنًا إلا إذا نُفِخ فيها كيرُ الفتنة، وتلبست المذاهب الدينية لبوس السياسة، ودخلت الأغراض الدنيئة التي تفرق بين أبناء الوطن الواحد، فيخاف الأخ أخاه، وينفر المرء من ابن عمّه، وهنا – وايم الله – تبيض الجاهلية وتفرّخ.
إنه لا شيء يفرح الأعداء والشامتين أكثر من أن تدب الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، فيتدسسون إليه بأيديهم القذرة، وبفهم تلك الأسس، أسس الوحدة الوطنية، من الدين، واللغة، والمشتركات، يقف الجميع سدًا منيعًا أمام كل صاحب فتنة، سدًا لا توهنه فؤوس الطائفية، ولا معاول القبليّة المتعصبة، إذ يُجدّد بناؤه كل حين، بالتذكير بتلك الأسس، وهاتيك المشتركات.
إن السعيد من وعظ بغيره، ونظرة عجلى إلى ما يصيب – بكل أسف – الأوطان العربية من حولنا كفيلة بأن نعي ونفهم أن الوفاق مقدم على الخلاف، وأن عدم الاعتراف بالتعددية يهدد بالتفرق لأن الاختلاف والتعدد هو الطبيعة التي طبع الله العباد عليها، وسنّة من السنن التي لا يمكن تبديلها؛ مهما شطحت في الوهم الظنون.
وحريّ بالعقلاء الذين يستمع إلى قولهم أن يعوا هذا ويتنبهوا إليه، لئلا يندم الجميع، حين لا ينفع الندم.