عبدالله النغيمشي- الحياة-
أن يقوم شاب لم يتجاوز تخوم المراهقة بعيداً، من دون رصيد متراكم من التدريب على مواجهة الخوف، وغيرها من شروط القوة والاكتمال وتحمل المسؤولية الذاتية والوعي بالذات والحياة، والتي لا تتم إلا عبر سنوات ممتدة وعمر متقدم نسبياً، بمواجهة الموت المحتم عبر عملية انتحارية محسومة الموت وليس فيها خيار غير ذلك، فهو أمر لا يمكنني فهمه، بوصفه تديناً ورغبة حقيقية بالاستشهاد الطهراني، وإن تم إيهام اللاوعي بذلك وتدشينه بمثابة ممارسة دينية.
في معارك الإسلام الأولى، والرسول بين ظهراني الصحابة ثمة مواقف تكشف عن دخول الصحابة في لحظات تخوف وضعف خلال المعركة، هي أقل خطورة من الاستشهاد الحتمي الذي يمارس اليوم من أفراد الميليشيات الجهادية، ومع ذلك فإن الصحابة ومع احتمالية النجاة فإن بعضهم يتراجع عن المواجهة، - ولا أقول هرباً؛ إجلالاً لمقام الصحابة - وذلك تهيباً منهم من لحظات الموت، وليس ذلك خطيئة من الصحابة، وإنما هو السياق البشري الطبيعي عند التماس مع أعلى درجات الخوف (غزوة حنين أنموذجاً).
إذا كان هذا التخوف من الموت حدث من الصحابة خير الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام وأفضلها وأكثرها إيماناً ووعياً ورغبة في الشهادة والجنة، فثمة مفارقة وثمة سر في حالة «الجهاديين الانتحاريين»، الذين يستحيل أن يشارفوا إيمان الصحابة، ومع ذلك يقدمون على أخوف الخوف لدى النفس البشرية «مواجهة الموت الحتمي».
المسألة برأيي تعود إلى شيء آخر عدا التدين عند هؤلاء الانتحاريين، وغير الشهادة الصريحة النابعة من إيمان عفوي عميق ينطلق من تواصل سوي بالله والدين.
بظني، أن الأزمة الفكرية التي تدفع ناحية الانتحار المسمى في هذا العصر مع الإسلام الحركي «عمليات استشهادية» ليست أزمة منفصلة عن السياق الديني الحركي العام، الذي يشِمُ وعينا وعلاقتنا بالدين المموه عموماً بالتوازي مع علاقتنا بالحياة وبالوجود وبذواتنا، وهنا من المهم تشريح هذين المتضادين «الموت والحياة في وعينا»، أو «الدين والحياة»، ومدى تأثيرهما في نظرتنا إلى الأشياء.
الوعي الديني الذي يتم توزيعه من لدن الإسلام الحركي الحديث، وعي يطبع الحياة ويلونها تماماً بالتديين الشمولي، ويحول الدنيا بأكملها إلى دين، مع أن الخطاب الديني المقدس فرق بين الديني والدنيوي، ولم يدغم الديني في كل دنيوي، وذلك ما عجز اللاوعي الديني الحركي الراهن عن استيعابه، ولذلك تحولت الحياة إلى عدم ومعاناة تدفع الوعي ناحية رغبوية الخلاص من الحياة والرحيل ناحية الآخرة، بمثابة إعلان لاشعوري للفشل في اكتناه الحياة وإدراك مغزاها.
الشباب الذين يتم استغلالهم عبر العاطفة الدينية للقيام بعمليات انتحارية لم ولن يقدِموا على مثل هذه النهايات العدمية المرعبة لو كان وعيهم الديني متسقاً ومتساوقاً مع الحياة، وذلك أنهم تم تضليلهم لاستيعاب التعارض بين الحياة والموت والدين والدنيا.
لو استشرفنا طبيعة تديننا الذي استبدل بالإسلام الحركي، وما نعانيه من عنت في التطبيقات الدينية، وكيف تم تضييق الحياة وتحويلها إلى تراجيديا دينية برزخية، لشارفنا استيعاب معنى أن يكره الإنسان الحياة بسبب الضيق الذي أحدثه الفقه الكاره للحياة، والمحارب لسعتها ومساحاتها التي تحتاج إليها النفس البشرية الضعيفة، التي لا يمكن لها التواصل الدائم مع الدين إلا من خلال التوسع في مجالات الحياة، بما فيها من مرح ومتعة وعفوية.
إن لنهاية العلاقة الرمادية بالحياة والتجافي عنها والاحتراب معها ومع الوجود نتيجته الطردية، هي رغبوية الهرب من الحياة والتواصل مع الموت، لأن من لا يدرك مغزى الحياة لا يمكنه التواصل معها، وسيتجه ناحية ثقافة الفناء والرحيل، وهذا ما يحدث تماماً ممن يعدون استشهاديين شكلاً وهم في الحقيقة يؤدون دراما الانتحار ذاتها بكل مضامينها ومعانيها تحت غطاء المقدس الموهوم.
(الحصاد) الفكر الجهادي الحديث، الذي هو من مخرجات الإسلام الحركي ويبرأ منه الإسلام الأصيل، مارس التمويه الفكري حتى في الغيبيات، التي منها الشهادة وموعود الله، من خلال تضئيل قيمة الحياة وجعلها مساحة ضيقة ما بين الدين والآخرة، وذلك أن حول الحياة إلى ماهية لا معنى لها وجردها من جوهرها بما تحويه من استخلاف إلهي ومجال للمتعة وممارسة الحق البشري في الاندماج والانسياح فيها، وكان لذلك الأثر اللامتناهي في جعل الفرد الحركي «الشاب» يضيق بالحياة ويتلاشى لديه معنى وقيمة الوجود، كما رغبوية الهرب من الحياة عبر أسرع طرق الرحيل «الانتحار» الموشوم تمويهاً بالاستشهاد.
الإسلام الحركي أدرك عميقاً أن خطابه، وخصوصاً الجهادي، لا يمكن أن يجد استجابة لدى الأسوياء، ولذلك يتجه إلى الرهوط المهيئين نفسياً لقبول خطابه، ولذلك هو يستهدف الأغرار من الشباب الذين يتضمخون بغريزة التدين المصحوبة بالجهل والاندفاع ورغبة المغامرة، كما هي حال مرحلة الشباب التي لا تدرك العواقب والمخاطر، نظراً إلى سكْرها بغريزة التدين والحماسة العمرية.
الفرد المنتمي إلى الإسلام الحركي تتم تنشئته على الضغوط النفسية تجاه الذات والحياة، نتيجة تعرضه للعنف اللغوي الدعوي، الذي يدفع ناحية الوهم والوسواس ومنابذة كل مباح في الحياة، وذلك ما صنع الازدواجية والضبابية في اللاوعي، وخلق مزيجاً مشوهاً في العلاقة مع الحياة ومع الذات، وتحولت الدنيا لدى هذا الوعي إلى حال تشابه المفهوم الذهني في علم النفس «تبدد الواقع»، وذلك ما يشوه لا إرادياً اللاوعي حتماً.