يوسف الديني- الوسط-
الأحرى بعلماء اليوم من فقهاء ومشتغلين بالعلم الشرعي الالتفات لدورهم بدل الانصهار في أتون السياسة٬ وليس السياسة الشرعية٬ بل السياسة بمعناها المتحول والنسبي والبراغماتي٬ وأنا هنا أتحدث عن العلماء غير المسيسين أو المنتمين لإحدى جماعات الإسلام السياسي ممن يعّدون صمام أمان للفضاء الديني العام الذي يمّر بتحولات هائلة على مستوى المرجعية والمفاهيم العامة.
منذ نشأة العنف المسيس ومفاهيم كثيرة٬ على رأسها «الجهاد» وأحكام غير المسلم٬ تتعرض لتجريف خطير جًدا يحورها ليس فقط بإخراجها من الاعتدال الديني إلى مناطق معتمة من الأقوال المهجورة والشاذة٬ بل يخرجها من سياق النص الديني إلى التبرير السياسي المحض لتتحول أقرب إلى مفاهيم الميليشيات الشيوعية التي تنادي بحتمية العنف للتغيير.
والحق يقال: إن كل القراءات الجاّدة حول المفاهيم التي يستخدمها العقل الإرهابي لتبرير أفعاله جاءت من أطراف خارج الدرس الشرعي سواء من المستشرقين أو الباحثين للفكر الإسلامي من زوايا سياسية واجتماعية٬ ورغم كفاءة الكثير من هذه المنتجات وعمقها فإنها لم تؤثر في الفضاء الديني العام الذي لا يعترف إلا بالمرجعيات التقليدية ولغتها وطريقة تحشيدها وإنتاجها للفتاوى.
اللافت في الأمر أن تطور مفهوم «الجهاد» لم يقتصر على المدارس السنية فحسب٬ بل مسه الكثير من التحولات في المذاهب الأخرى حيث تم ربطه بالحالة السياسية التي يعيشها المسلمون وحضور الإمام من غيبته.
لحظة النكوص كانت مبكرة جًدا منذ عقود ومع ظهور تبرير الاغتيالات في بداية النشأة الدموية للإسلام السياسي والذي كان يواجه بقمع السلطات آنذاك٬ وفي الواقع القريب وبعد بروز حركات العنف المسلح تحول هذا الملف الفكري إلى ملف شائك بعد محاولات حثيثة من هذه الجماعات إلى تفخيخ مفهوم «الجهاد» وتحويره ليصبح منطلًقا لكثير من العنف الفوضوي الذي لا يقارب مفهوم «الجهاد» الشرعي إلا من حيث المسمى حيث تجاوز الحدود والشروط والمحددات التي قررها الفقهاء القدامى بدقة فائقة.
فالشريعة الإسلامية جاءت لتوافق مقصود الشارع وليس لتعزز القيم الغرائزية والشهوانية مثل حب الظهور والمال والسطوة٬ ومن أهم تلك الغرائز التي يمكن أن تنفلت من صاحبها إذا لم يراِع ضوابط الشرع هي الغرائز المتعلقة بالقوة الغضبية٬ فالذين يقدمون على ذلك هم في الغالب من المجبولين على الشجاعة والقوة لذلك تم التنصيص في الكتاب والسنة على أن «الجهاد» إنما جاء لتكون كلمة الله هي العليا ولنصرة المستضعفين.
فقهاء البيانات يمشون في الشارع الخلفي للسياسة بأدوات ولغة دينية وهنا مكمن الخطر٬ فحتى مع التحولات الملحوظة في التحفظ على مسألة الدعوة للنفير بسبب اليقظة الأمنية لا تعني أن الأتباع لن يقرأوا ما بين السطور وتتكرر المأساة من مطبخ بيشاور إلى مستنقع سوريا ونعود للمثلث المشؤوم «المنظرين٬ المفجرين٬ المبررين».