عبير العلي- الوطن-
الخطوة الأولى لتصحيح المفاهيم المتطرفة تبدأ من توضيح الصورة الأصدق لمعنى التديّن، ثم الالتفات إلى إشباع النقص الاجتماعي والمدني والاقتصادي لدى الشباب بما يتفق مع العصر لا تزال العمليات الأمنية التي تطيح بأوكار داعش وأفراده في السعودية قائمة حتى اللحظة، ما بين عمليات معلنة وأخرى تستدعي المصلحة العامة والمرحلة التكتم عليها إلى حين، كان آخرها الوصول "لمعمل" تصنيع المتفجرات المجهز لتحضير المواد المتفجرة والأحزمة الناسفة في أحد المنازل وسط أحد الأحياء شرق مدينة الرياض والقبض على المسؤول عنه و"سبيته". في مثل هذا الإنجاز إشارة إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها الجهات الأمنية في التحري والتتبع والقبض على شركاء الإرهاب في الوطن من جهة، وملاحظة الجرأة التي قد نكتشفها أكثر مع الأيام في عمل هذا التنظيم بالتمركز وسط الأحياء المأهولة بالسكان، واستخدام الوافدين والعناصر النسائية من جهة ثانية، فضلا عن تشريك المواقع وتجنيد صغار السن.
لكن التعامل مع داعش لا يحتاج فقط جهودا أمنية، بل ينبغي أن تسبقها وتتزامن معها جهود أخرى ووسائل مختلفة وطرق مبتكرة تطوق مثل هذا التيار الإرهابي الذي ينمو بخبث سرطاني في أوساط الشباب. ولو كان هناك وعي اجتماعي كاف وتقارب بين أهالي الحي ومتابعة مسؤولة من مكاتب تأجير العقار؛ لتمت ملاحظة أي تحرك مريب أو دخول وخروج لأشخاص وأدوات ملفتة كالتي استخدمت في تجهيز هذا المعمل منذ وقت مبكر.
هذا لا يعني أن المواطنين لا يوجد لديهم شعور بالمسؤولية تجاه أمن أوطانهم، بل أصبح كثير منهم الآن أكثر وعيا وحرصا على سلامتهم مع فهمهم حقيقة هذا التنظيم الإجرامي وتوالي الصدمات منه، خاصة بعد حادثة الشملي، وما ردة الفعل التي قام بها المواطنون يوم الجمعة الماضي في ملاحقة الشاب الذي اعترض على خطيب الجمعة في جامع إشبيلية بالرياض بعدما تحدث في خطبته عن الجماعات الإرهابية ومن بينها داعش، والقبض عليه حتى وصول الجهات الأمنية إلى الموقع واستلامه، إلا دليل على حس المسؤولية والمواطنة لدى كثير من المخلصين.
إن معالجة سبب المشكلة أهم من المشكلة نفسها، فداعش لم يخلق في يوم وليلة، ومن يتبنى فكره ويرتكب جرائمه ويتباهى بدمويته ويتغاضى عن مساوئه أفراد عاشوا بيننا ونتقاطع معهم في أمور كثيرة، وجميعنا يعلم أن الرداء الذي يظهر به داعش هو رداء اتخذ من الشبهات مدخلا لتشريع القتل والسبي والتدمير والركض خلف هوس الخلافة والجهاد وقبلها التحزب والتطرف والتكفير لكل من لا يتفق معهم. لذا فإن الخطوة الأولى لتصحيح مثل هذه المفاهيم تبدأ من هذه الشبهات لتصحيح عقائد الشباب وتوضيح الصورة الأصدق لمعنى التديّن، ثم الالتفات إلى إشباع النقص الاجتماعي والمدني والاقتصادي وغيرها لديهم وتنميتها بما يتفق مع هذا العصر.
في هذا الصدد نشرت صحيفة "الوطن" الأسبوع الماضي خبرا عن هيئة كبار العلماء في المملكة واستعدادها "لتدشين استراتيجية عاجلة لمواجهة الفكر الإرهابي ترتكز على ثمانية محاور"، والذي تهدف فيه إلى تفعيل دور الهيئة القلقة من "تطور الفكر الداعشي الذي أصبح يهدد المجتمعات، ويشوه صورة الإسلام ويستهدف شباب المسلمين، وعليه بات لزاما على الجميع التصدي له، ومواجهة أفكار التطرف الدخيلة على الإسلام، وتحصين الشباب وصغار السن من خطر الوقوع في مصائده". وكانت هذه المحاور هي:
1- تفعيل وإقامة الندوات والدروس العلمية لأعضاء الهيئة.
2- إنشاء حاضنات لاستقبال الشباب والرد على استفساراتهم وتوعيتهم.
3- توفير الإمكانات المادية والمعنوية لأعضاء الهيئة.
4- زيارة أعضاء الهيئة للمناطق كافة، وتفعيل حضورهم.
5- تفعيل التواصل مع القطاعات الحكومية وإقامة حلقات وندوات فيما بينهم.
6- دعم البحوث العلمية المتعلقة بالجماعات المتطرفة.
7- تفعيل الدور الإعلامي للهيئة.
8- تفعيل وتكثيف حضور أعضاء الهيئة في مواقع التواصل الاجتماعي.
والحقيقة أن مثل هذا الخبر يبدو مبشرا وورديا وحالما ونحن نقرأه على الورق، ولا نعلم مدى فاعليته عند تطبيقه على أرض الواقع، لأنه لا يختلف كثيرا عما هو موجود بالفعل منذ سنوات طوال ولم يسهم في حل مشاكل التشدد والتطرف كثيرا، بل ربما كان سببا في ترويج بعض الأفكار التي تخدم منهج داعش أو أنها بعيدة تماما عن واقع الحياة واحتياجات الشباب. الندوات والدروس العلمية والحلقات التي تتم من خلال زيارات لمختلف المناطق داخل وخارج الدوائر الحكومية لم تتوقف يوما، وتسخر لها الإمكانات المادية والمعنوية ويقبل عليها الناس بكل حب وثقة ويقين فيما سيقال ويعلن في تلك المنابر، لثقة الناس ومحبتهم لأعضاء هذه الهيئة. والبحوث التي تتناول مثل هذه الظواهر ستكون أكاديمية بحتة وستدار نقاشاتها في قاعات مغلقة لعدد من الضيوف المعتبرين بعيدا عن الشريحة المستهدفة من هذه الاستراتيجية.
لا أريد استباق النتائج لما ستقدمه الهيئة وأعضاؤها المؤثرون في المجتمع، ولكني كمراقبة لما يحدث في المجتمع وقريبة مما يدور من أفكار وتساؤلات في ذهن هذا الجيل المشدود لدينه بالفطرة والحائر مما يدور حوله، أتساءل: عن أولئك الذين نراهم على منصات وسائل الإعلام المفتوحة يتصدرون المشهد وينظرون لكل قضية ويسهمون في زيادة الأمر سوءا، وأدعو الهيئة المعنية والمصرح لها أن تصدر -قبل أن تعيد تصدير بعض الأسماء للواجهة الإعلامية- توضيحا حول ما يحدث من الجماعات الجهادية كافة، تزيل فيه اللبس عن مفهوم الجهاد، ونصرة الدين، والوطنية والتكفير وتذيّله بأسماء كل المنسوبين المعتبرين لديها. وأن تفتح باب الحوار والتساؤل للشباب في أندية الحي والمدارس والجامعات وتوكل لهم عمليات البحث والتتبع. وتثير لديهم حماسة تتناسب مع طموحات الوقت الراهن للبحث العلمي للعلوم المعاصرة، وإثراء عقولهم وأرواحهم بالروحانيات والفلسفة والفنون المختلفة. والتركيز على التكامل بين هذا الجانب من احتياجاتهم العلمية والعقلية واحتياجاهم للترفيه، ومواكبة العصر حتى لا يشعرون بالنقص وتخلف الركب عن بقية العالم. كما أن تكثيف الحضور عبر وسائل التواصل الاجتماعي لن يكون مجديا إن كان التواصل مع الآخرين يعتمد أسلوب الإلقاء والإنصات وسرد وعظيات مكررة أو لغة أوامر مملة. التصدي للفكر الداعشي مهمة شاقة ولكنها ليست مستحيلة لو كنا واقعيين وعمليين في جهودنا ومتحدين في أهدافنا، والتي على رأسها -بلا شك- حماية الوطن التي ستستقيم معها حماية الدين والمجتمع.