محمد محفوظ- الرياض-
لاعتبارات سياسية واجتماعية عديدة، مرت على دول المنطقة وبالذات تلك الدول والمجتمعات التي تعيش التعدد المذهبي، فترة من الزمن، كانت تعتقد أن خلاصها الواقعي في توزيع الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية بين الطوائف والمكونات التي يتشكل منها المجتمع العربي هذا أو ذاك، ودخل الجميع في سياق هذه الرؤية ومن زخمها، في أتون الصراعات والنزاعات المفتوحة على كل الاحتمالات سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المجموعات البشرية.
لا خيار أمام الجميع إلا بالعودة إلى الوطن والمواطنة، ومهما كانت الصعوبات والمشكلات، لايمكن الهروب منها إلى داء الطائفية، الذي يفرق ولا يجمع، يغرس الإحن والأحقاد بين الناس، ويضيع على الجميع فرص العيش بوئام في دائرة الوطن الواحد والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.
ولكن شعر الجميع أن ما نسميه المحاصصة الطائفية، سيضيّع الوطن، وسيدخل الجميع في انقسامات لا تنتهي. تبدأ بالانقسام الطائفي، ولكن هذا ومتوالياته يفضي إلى انقسامات فرعية متلاحقة ومتواصلة. لذلك فالذي يريد أن يحافظ على وطنه ويصون وحدته الوطنية وانسجامه الاجتماعي، عليه أن يطرد من واقعه وقبل ذلك عقله، كل نزعات المحاصصة الطائفية. لأن هذه المحاصصة ستضيع الأوطان كما أنها ليست هي السبيل الأفضل لنيل الحقوق وانجاز معنى الإنصاف بين جميع المكونات والتعبيرات.
وعليه فإننا نعتقد أن الطائفية، ليست حلا لأي طرف، وإنما هي جوهر المشكلة التي يعاني منها العديد من المجتمعات العربية والإسلامية.
ولا خيار أمام الجميع إلا بالعودة إلى الوطن والمواطنة، ومهما كانت الصعوبات والمشكلات، لايمكن الهروب منها إلى داء الطائفية، الذي يفرق ولا يجمع، يغرس الإحن والأحقاد بين الناس، ويضيع على الجميع فرص العيش بوئام في دائرة الوطن الواحد والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. وعليه نصل إلى قناعة مركزية لا لبس فيها، أن فتح المجال لإبراز التعبيرات الطائفية بوصفها هي عنوان الإنصاف ونيل الحقوق، من الأوهام التي تضيع الحقوق وتبعد الجميع عن الانصاف وتبعثر وحدة الناس الوطنية.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن الأوطان خالية من العيوب والأمراض، ولكن لا يهرب الناس من مرض حتى يقع في مرض أشد من الأول فتكا وضررا بالإنسان على المستويين المادي والمعنوي.
ولنا في التجربة السياسية العراقية خير مثال وبرهان. مع العلم أن في الشعب العراقي ثمة حقائق تقلل من امكانية الانقسام الطائفي الحاد. إلا أن الحرب الطائفية المستعرة منذ سنوات في العراق، ضيعت حقائق الوحدة والانسجام التي يعيشها الشعب العراقي أو بعض فئاته على الأقل، وأدخلت الجميع في أتون القتل والقتل المضاد، وأضحى العراق نموذجا لتلك الحروب الطائفية العبثية. فالعنف يستدعي العنف، والدم المسفوك يقابل بدم مسفوك آخر، وهكذا دخل العراق في لعبة الموت والموت المضاد في سياق دائرة جهنمية لا تقف، دمرت كل شي جميل في العراق، ورجع العراق في علاقاته والنظر إلى شريكه الوطني، إلى زمن الحروب الطائفية التي تدمي القلب، ولا تبحث إلا عن القتل، وكأن القتل سينهي شريكك الوطني ويدخله في طي النسيان. فالحقائق الطائفية في أي مجتمع، لا يمكن إدارتها والتعامل معها بعقلية الاستئصال، وكأن القتل ينهي الحقائق ويفني معطيات الوجود والخصائص الثقافية والاجتماعية. فمن يقتل شريكه الوطني بعنوانه المذهبي والطائفي، سيدفع من يقف وراء المقتول إلى التشبث بطائفيته بوصفها هي خط الدفاع الأول عن الوجود والمصالح.
ومن يتحصن بطائفيته، لصيانة حقوقه ستضيع من جراء هذا التحصن قيم الوطن والمواطنة. وحتى لا يندفع الناس إلى التحصن وراء طوائفهم، من المصلحة الوطنية صيانة حقوقهم ومصالحهم على قاعدة وطنية راسخة، تعيد كل الانتماءات مادون الدولة الحديثة إلى حجمها الطبيعي. ولكن حينما تتضخم هذه الانتماءات، ستكون على حساب المواطنة المتساوية، ما يضيع فرص الوحدة بين المواطنين الذين ينتمون مذهبيا وطائفيا إلى مذاهب وطوائف متنوعة. بمعنى أننا في الدائرة العربية والإسلامية، لا نود أن نعيد تجربة العراق في أي دولة عربية وإسلامية. نريد لجميع دولنا أن تحترم انتماءات المواطنين الدينية والمذهبية، وعلى قاعدة هذا الاحترام تكون المواطنة بكل حمولتها الرمزية والقانونية هي مصدر الحقوق والواجبات.
وعلى ضوء هذه الحقائق نتمكن من القول: إن كل انتماءات مادون الوطنية الحديثة والمواطنة المتساوية، هي تساهم في إدخال كل المجموعات البشرية في كانتونات مغلقة تضيع حقائق ومقتضيات الوطن الواحد والمواطنة المتساوية. فهي عناوين تشظي أبناء المجتمع الواحد، وتجعل كل مكون يحصر شبكة علاقاته ومصالحه مع من يشبهه في الانتماء المذهبي. ونحن هنا لا ندعو إلى محاربة هذه الانتماءات، وإنما ندعو إلى احترامها وتقديرها وصيانتها، وعليه فان ما ندعو إليه أن يرتفع الجميع إلى مستوى الوطن الواحد، بحيث يكون الانتماء الوطني هو قاعدة الحقوق والواجبات. بحيث كل مواطن ينتمي إلى هذا الوطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قبيلته له ذات الحقوق وعليه ذات الواجبات. بحيث لايمنع الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي أي مواطن من نيل حقوقه كمواطن.
وحينما يرتفع الجميع إلى مستوى الالتزام بكل مقتضيات الانتماء الوطني، سيتمكن هذا المجتمع من التخلص من أمراض الطائفية والقبلية وكل الأمراض الأخرى المرافقة لانتماءات ماقبل المواطنة الحديثة. وتتحول هذه الانتماءات إلى حالة اجتماعية طبيعية، بدون نزعة عصبوية، تثير الفروقات والتمايزات مع بقية الانتماءات. فالوطن يتسع لجميع المدارس الفقهية، ولا يضير هذا بوحدتها ولحمتها الداخلية؛ لأن هذه الوحدة تبنى على احترام التعدد والتنوع، الاحترام الذي ينزع كل نزعات الخصومة والعداوة بين المكونات الاجتماعية المذهبية. وخلاصة الأمر آن الأوان وعلى ضوء تطورات المرحلة، ثمة ضرورة فائقة للاعتصام بالوطن والمواطنة المتساوية، والتعالي على كل الانقسامات التي تهدد وحدة الوطن وانسجام أهله الاجتماعي. فالوطن وحده هو القادر على جمع الجميع وتوحيد كل التوجهات على قاعدة الوطن الواحد الذي يعزز وحدته الداخلية بمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات.