تواصل » صحف ومجلات

السعودية والخليج في خضم انخفاض أسعار النفط والانتفاضات الإقليمية

في 2015/10/12

شؤون خليجية-

يرجع انخفاض أسعار النفط، بواقع 55 % خلال العام الماضي، إلى الخلل الكلاسيكي بين العرض والطلب. والجانب الفريد في الركود الحالي هو حدوثه في ذروة اضطرابات الشرق الأوسط.

هذا الحشد من العوامل يخلق إشكالية لملكيات الخليج، وربما إشكالية أكبر للدول المرتبطة بها اقتصاديًا.

وبعدما ساعد ارتفاع أسعار النفط، واحتياطيات العملة الأجنبية، على أن توفر الأنظمة الخليجية مستوى معيشة مرتفع لمواطنيها، يبقى التحدي الكبير الآن هو: الإبحار في خضم هذا الركود بهدوء وسلام.

وبينما تعتمد الاستراتيجية الحالية على: الاستخدام المحسوب للاحتياطيات النقدية، وتخفيض الميزانية؛ لكبح أضرار مستوى المعيشة، ومخاطر السخط العام- مع ذلك- فإن المشاعر الشعبية يصعب السيطرة عليها، لا سيما في ظل وجود عناصر تخريبية؛ وبالتالي، تزداد خطورة عدم الاستقرار في الخليج والمنطقة.

يرجع انخفاض أسعار النفط، بواقع 55 % خلال العام الماضي، إلى الخلل الكلاسيكي بين العرض والطلب. ففي حين زاد الطلب بمعدلات معتدلة؛ بسبب بطء النمو الاقتصادي، أو الركود الاقتصادي، في مناطق كثيرة حول العالم، زاد المعروض بمعدل أسرع بكثير. وبشكل أكثر تحديدًا، ارتفع العرض في الولايات المتحدة، وتجاوز إنتاج أوبك- التي تضم كبار منتجي النفط العرب، وإيران، ودول أخرى- الطلب.

في أغسطس 2015، بلغ متوسط ​​سعر سلة أوبك نحو 45 دولارًا للبرميل، بالمقارنة مع 100 دولار للبرميل في الفترة ذاتها من العام الماضي. ووفقًا لنشرة أوبك، الصادرة يوم 11 أغسطس 2015، يحتاج أعضاء المنظمة إنتاج 29.2 مليون برميل فقط يوميًا؛ لتلبية الطلب العالمي على النفط والغاز المسال الذي يبلغ إجمالي 92.7 مليون برميل يوميًا (بالنظر إلى أن المعروض من النفط خارج أوبك هو  57.5 مليون برميل يوميًا، وإنتاج أوبك من الغاز السائل 6 ملايين برميل يوميًا). ومع ذلك، من الناحية العملية، كان إنتاج الدول الأعضاء في أوبك من النفط خلال شهر يوليو هو: 32.5 مليون برميل يوميًا، أي بفائض إنتاج نسبته 12 %.

وبالفعل تؤثر عودة النفط الإيراني الوشيكة إلى السوق على التوقعات، كما سترغب إيران في انعقاد قمة أوبك في المستقبل القريب. هذا ينطبق أيضًا على فنزويلا والجزائر، اللتين دعتا قادة أوبك إلى اجتماع عاجل لمناقشة السقوط الحر للأسعار. ورغم أن روسيا ليست عضوًا في منظمة أوبك إلا أنها مهتمة أيضًا بخفض الإنتاج؛ نظرًا لأنها منتج كبير للنفط يعاني من صعوبات اقتصادية. لكن في الوقت الراهن، لا تفضل المملكة العربية السعودية ودول الخليج، التي لا تزال اقتصاداتها في حالة أفضل بكثير، خفض الإنتاج.

على المدى الطويل، طالما انخفضت الأسعار؛ سيرتفع الطلب، وسوف يتراجع ضخ المزيد من النفط في أنحاء العالم بسبب الاعتبارات الاقتصادية، وهي النقطة التي ستعاود فيها الأسعار الارتفاع مرة أخرى. بعبارة أخرى، يعاني سوق النفط من التقلبات، بينما يخيم الغموض على عمق ومدة الركود. وفي نقطة الانخفاض السابقة، التي وقعت في منتصف فبراير 2009، انخفضت الأسعار إلى 34 دولارًا للبرميل، بالمقارنة مع ارتفاع وصل إلى 140 دولارًا للبرميل في يونيو 2008.

الاستراتيجية العربية السعودية

تمتلك المملكة العربية السعودية ودول الخليج ثلث احتياطيات النفط المؤكدة في العالم. ورفضهم خفض إنتاج النفط، حتى لو تُرجِمَ انخفاض الأسعار إلى انخفاض حاد في عائداتها، يمكن تفسيره بثلاثة عوامل:

أولًا: تهدف هذه الدول إلى زيادة دخلها من احتياطياتها النفطية على المدى الطويل. لذلك هم مستعدون للانخفاض الراهن في الأسعار؛ للحد من إمكانية تطوير بدائل لاحتياطياتها. على سبيل المثال، تولي هذه الدول اهتمامًا بمعدل الإنتاج في الولايات المتحدة، والذي ارتفع منذ عام 2008 بنحو 50 %، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي واستغلال الصخر الزيتي. والرؤية السعودية طويلة الأجل- التي لا تزال بعيدة عن التحقق- هي تحويل احتياطيات النفط إلى قدرات إنتاج صناعية من شأنها أن تحررها من الاعتماد على النفط. كما أن إمارات الخليج مهتمة بالاستثمارات ذات العائد، خاصة في الخارج، والتي ستدعم استمرار الأجيال القادمة في التمتع بنمط المعيشة الذي اعتادوا عليه.

تفسير آخر أكثر واقعية عن الوضع الحالي هو: أن دول الخليج تحاول حماية حصتها في السوق. في هذا السياق، أوضح سداد الحسيني، نائب الرئيس التنفيذي السابق في أرامكو للاستكشاف والتطوير، في أغسطس 2015، أن دول الخليج حتى لو كانت قلصت إنتاجها في أواخر العام الماضي، فإن "طوفانًا من إمدادات النفط الجديدة من الولايات المتحدة وكندا وغيرهما كان سيستمر في تقويض أسواق النفط، وكانت الأسعار ستنهار إلى المستوى التي عليه الآن، في كافة الأحوال". علاوة على ذلك، لا تثق السعودية في أعضاء أوبك، وتعتقد أنه حتى إذا تم التوصل إلى اتفاق لخفض الإنتاج، فلن يحترمه الأعضاء.

التفسير الثالث يشمل استخدام السعودية ودول الخليج النفط كسلاح ضد إيران. أو هذا ما يعتقده النظام في طهران على الأقل.

القيود المحلية

يبدو أن انخفاض أسعار النفط يتناسب مع استراتيجية المملكة العربية السعودية والإمارات الخليجية لتعظيم احتياطياتها النفطية في المدى الطويل، وعرقلة إعادة بناء الاقتصاد الإيراني. لكن الانخفاض المستمر في الأسعار يتعارض مع استراتيجيتهم للبقاء على المستوى المحلي، الأمر الذي يتطلب مستوى كبيرًا من الثروة حتى على المدى القصير؛ لأن شعوب هذه الدول لا تتعامل بسخاءِ نفسٍ مع تخفيض مستوى المعيشة.

ويأتي أكثر من 80 % من إيرادات الحكومة في هذه البلدان من مبيعات النفط والمنتجات النفطية والغاز، وهذا الدخل هو الذي يُمَكِّن الأنظمة من توفير مستوى عالٍ من الرفاهية لشعوبها. بعبارة أخرى، تترجم عائدات النفط إلى خدمات ومنتجات مدعومة بنسبة كبيرة. على سبيل المثال، تبلغ تكلفة اللتر الواحد من النفط في المملكة العربية السعودية 16 سنتًا، أي أقل من سعر زجاجة المياه. كما أن هذه الأنظمة أكبر أرباب العمل، ومصدر الزيادات والعلاوات في الرواتب، التي لا تخضع لأي ضريبة. من ناحية أخرى، لا يتمتع المواطنون بحقوق سياسية، والعقد بين المجتمع والدولة قائم على فكرة أن الحاكم يعتني برعاياه في مقابل موافقتهم على عدم التدخل في الحكومة. ومن هنا جاء الارتباط الوثيق بين العائدات النفطية واستقرار النظام. لذلك يجعل انخفاض أسعار النفط من الصعب على هذه الدول أن تحافظ على زخم التنمية وارتفاع مستوى المعيشة. وقد كان لذلك أهمية خاصة منذ الربيع العربي؛ نتيجة ضخ السيولة النقدية اللازمة لتهدئة التوترات الاجتماعية والسياسية. وفي الوقت الحاضر، لدى جميع دول الخليج تقريبًا عجز في الميزانية ينخر في احتياطياتها.

ومن المتوقع أن تختم السعودية هذا العام بعجز قدره 150 مليار دولار، وهو الأكبر في تاريخها. وقد بدأت المملكة بالفعل في تخفيض ميزانيات المشاريع، وحتى الاستحواذات العسكرية. وحتى الآن، خصصت الحكومة نحو 10 مليارات دولار شهريًا من احتياطياتها من العملة الأجنبية لتمويل نفقاتها. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، انخفضت احتياطيات المملكة من العملات الأجنبية من 724 مليارًا في أواخر 2014، إلى 660 مليار دولار في يونيو 2015. صحيح أن الاحتياطيات لا تزال كبيرة، لكن هذه الخسارة وعدم اليقين بشأن مدة الركود الحالي؛ يتطلب سياسة لتخفيض الإنفاق، وهي السياسة التي تمثل مخاطر في حد ذاتها.

ويحث صندوق النقد الدولي على اتباع سياسة لخفض الدعم وزيادة الدخل؛ عن طريق فرض الضرائب إذا لزم الأمر. ومع ذلك، في أوائل عام 2015، عندما حاولت الكويت خفض دعم الديزل، دفعها الغضب الشعبي إلى التراجع عن قرارها. وأظهرت تلك الحادثة للأنظمة المخاطر التي تنطوي عليها مثل هذه الخطوة. وبالتالي من المرجح أن تتخذ هذه الدول خطوات صغيرة جدًا، وأن تفضل التخفيضات (التطوير) التدريجية، على المدى الطويل، على تخفيض النفقات الجارية. أما الملكيات الأقل ثراء مثل البحرين وسلطنة عمان، فإنها تواجه خطورة خاصة.

الآثار الإقليمية للظاهرة

بالنسبة لإيران، ترقى هذه السياسة التي تتبعها دول الخليج إلى حرب اقتصادية. ففي ديسمبر 2014، وصف الرئيس روحاني هبوط أسعار النفط بأنه "مؤامرة"، وأضاف: "إن إيران وشعوب المنطقة لن تنسى هذه الخيانة، وسوف ترد عليها".

وقد تتفاقم التوترات بين الجانبين؛ إذا انتهى المطاف بإيران وقد زادت صادراتها، عقب إلغاء العقوبات، دون أن تنمو عائداتها بسبب انخفاض الأسعار. (بعد رفع العقوبات ضد إيران، قد تبقى دول الخليج وحدها في حرب اقتصادية ضد إيران).

كما يؤثر الوضع في الخليج على مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وسوريا ولبنان، وهي الدول التي تعاني من صعوبات اقتصادية حادة، وكانت تحصل على دعم مالي من مواطنيها الذين يعملون في الخليج، إلى جانب الاستثمارات والتجارة مع دول الخليج، كما كانت تتلقى، في بعض الحالات، مساعدات مباشرة. حيث تلقت مصر 39 مليار دولار، في السنة المالية 2013-2014: نحو 20 مليار دولار من العاملين في الخليج، وقرابة 19 مليار دولار كمساعدات من المملكة العربية السعودية ودول الخليج. وبينما بلغت المساعدات المالية للسنة المالية 2014-2015 12 مليار دولار، تقف احتياطيات مصر من العملة الأجنبية عند حدود 20 مليار دولار.

ويبقى الجانب الفريد في الركود الحالي هو: وقوعه في ذروة اضطرابات الشرق الأوسط.  هذا الحشد من العوامل يخلق إشكالية بالنسبة لملكيات الخليج، وربما أكثر من ذلك بالنسبة للدول المرتبطة بها اقتصاديًا.

وبعدما ساعد ارتفاع أسعار النفط، واحتياطيات العملة الأجنبية، على أن توفر الأنظمة الخليجية مستوى معيشة مرتفعًا لمواطنيها، يبقى التحدي الكبير الآن هو: الإبحار في خضم هذا الركود بهدوء وسلام.

وبينما تعتمد الاستراتيجية الحالية على: الاستخدام المحسوب للاحتياطيات النقدية، وتخفيض الميزانية؛ لكبح أضرار مستوى المعيشة، ومخاطر السخط العام- مع ذلك- فإن المشاعر الشعبية يصعب السيطرة عليها، لا سيما في ظل وجود عناصر تخريبية؛ وبالتالي، تزداد خطورة عدم الاستقرار في الخليج والمنطقة.