رائد السمهور- الوطن السعودية-
كل أولئك المنادين بالوحدة الإسلامية المزعومة، إنما يريدون وحدة على مقاسهم! إذ كيف تقام وحدة وطوائف من الأمة يكفر بعضها بعضا؟ ويلعن بعضها بعضا؟ ويبيح بعضها دم بعض؟
أحسب أن ليس على وجه الأرض مسلم لا يتمنى أن تتحقق الوحدة الإسلامية فيما بين الشعوب والحكومات الإسلامية، إنه حلم يداعب القلوب، وما أكثر من يتحدث عن الوحدة الإسلامية من العلماء والمفكرين والمنظرين.
وسط هذا الزحام الهائل من الكلام عن هذا الموضوع، ربما أبدي رأيا متواضعا، أشير به –باختصار– إلى بعض الحقائق المهمة:
الحقيقة الأولى -وهي مؤلمة- أن هذه الوحدة الإسلامية بمفهومها القرآني المنشود لم تتحقق طيلة أربعة عشر قرنا، إلا في أوقات ضئيلة. تحققت في عهد النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ما التحق بالرفيق الأعلى؛ ووقع الاختيار على خليفته أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، ارتدت طائفة من العرب، ومنع بعضهم الزكاة، فقاتلهم أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، حتى أعاد الأمور إلى نصابها، وعندما توفي، خلفه عمر، رضي الله عنه، وفي عهد عمر عادت الوحدة الإسلامية حقا كما كانت، ثم تولى عثمان، رضي الله عنه، ولم يكد ينتهي النصف الأول من زمن عثمان، رضي الله عنه، حتى ثار من ثار من الناس، وتضعضعت الوحدة التي كانت، وكان الصدع في جدار هذه الأمة، وانشقت عصاها بمقتله، رضي الله عنه، ثم تولى علي، رضي الله عنه، وجرى ما جرى من قتال الفتنة في معركة الجمل، ثم جرى ما جرى من حرب في صفين والنهروان، ثم تولى معاوية بعد أن نزل له الحسن بن علي بشروط اشترطها، ولكن الحسن عاجلته المنيّة، وأراد معاوية أن يجعل ولاية العهد لابنه يزيد، فثار من ثار من الصحابة، الحسين، ثم عبدالله بن الزبير، وجرت أحداث عظام مذكورة في التاريخ، وأسيلت الدماء وانتهكت الأعراض.
ولم تزل الثورات تقوم، لا تهدأ، ولا تقر، لا تنطفئ ثورة حتى تقوم أختها، حتى زال ملك بني أمية، وقام بالأمر بنو العباس الذين كانوا يعملون عملا صبورا طويلا –أيام بني أمية– حتى أنهوا تلك المرحلة، لتبدأ مرحلة جديدة.
ولم يخل عهد بني العباس من ثورات، حتى إذا ما بلغ ملكهم أوجه في عهد هارون الرشيد، قامت دول شبه مستقلة في مملكته، دولة الأغالبة، ثم الأدارسة، ولا ننس قبل هذا بقية دولة بني أمية في الأندلس منذ قيام دولة بني العباس أصلا.
دع عنك بعد هذا انقسام دولة بني العباس إلى دول، كدولة بني بويه، والحمدانيين، والفاطميين، والقرامطة، والمرابطين، والموحدين، ثم الأيوبيين..إلخ.
وحتى العثمانيون الذين يقال إن دولتهم كانت خلافة جامعة للأمة؛ لم يكن عهدهم عهد وحدة حقيقية، فالدولة الصفوية كانت موجودة، والانقسام كان حاصلا.
الحقيقة الثانية: أن كل الدول التي قامت في تاريخ الإسلام الطويل –بعد الخلفاء الراشدين– كانت دولا مذهبية، وجرت العادة أنه حين يكون للدولة مذهب، فمعارضو المذهب يعدّون بطريقة أو بأخرى معارضين للدولة. بل ربما استخدم السياسيُّ المذهب –حال كونه أيديولوجيا الدولة– لمواجهة الدول الأخرى المخالفة لمذهبه، فهذا الإمام الغزالي مثلا يكتب كتابه الشهير بعنوان: "المستظهري في فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، وهو يعني بهذا الخليفة العباسي المستظهر بالله العباسي، في الرد على المذهب الباطني الذي كان مذهب الدولة الفاطمية، وكان خليفة الفاطميين حينئذ هو المستنصر بالله، وكذا صلاح الدين الذي كان أشعريا شافعيا، نصر الأشاعرة والشافعية على كل من سواهم.
بل حتى حين تكون الدولة سنيّة؛ تجد الخلاف بين أبناء المذاهب السنيّة الذي كان يصل إلى الاقتتال وحرق المساجد بسبب مسائل فرعية أحيانا كالجهر بالبسملة مثلا، والتاريخ فيه كثير من الأمثلة، بين الشافعية والحنابلة، وبين الشافعية والحنفية.
بل إن ابن نجيم في كتابه البحر الرائق بشرح كنز الدقائق نقل عن بعض علماء الحنفية أنهم لا يجيزون للحنفية أن تتزوج من شافعي، لأن الشافعي يجيز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وبهذا فهو شاكّ في إيمانه، فلا يزوّج من الشافعية، ولا يقتدى به في الصلاة! أي لا يصلي الحنفي خلف الشافعي! وقالوا في حق الشافعية إذا تزوجها حنفي أنه يجوز أن يتزوّجها؛ وأنه يسن فيها سنة أهل الكتاب! ومن رجع إلى كتاب الدكتور خالد كبير علال عن التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي سيجد أهوالا وكوارث والله المستعان.
الحقيقة الثالثة: أن ما نعيشه اليوم من تفرق وانقسام هو امتداد لتاريخ طويل من الخلافات السياسية والمذهبية تفتك بهذه الأمة، وكم سالت الدماء أنهارا لهذا السبب. فلا يزال لدينا تنازع طائفي، واللافت أن المتنازعين والمتقاتلين جميعا ينادون بالوحدة الإسلامية!
بيد أن كل أولئك المنادين بهذه الوحدة المزعومة إنما يريدون وحدة على مقاسهم! إذ كيف تقام وحدة وطوائف من الأمة يكفر بعضها بعضا؟ ويلعن بعضها بعضا؟ ويبيح بعضها دم بعض؟
أراد قوم أن تكون الوحدة عن طريق "خلافة راشدة" على منهاج النبوة، سمعنا وأطعنا، ولكن الخلافة الراشدة نفسها التي على منهاج النبوة لم تتحقق فيها الوحدة، وما تحقق منها لم يدم مع الأسف إلا ريثما يعود النزاع!
وهؤلاء الداعون إلى الخلافة على منهاج النبوة، أسرفوا في الدماء والقتل والتكفير، وأرادوها وحدة على مقاسهم هم!، وكذا إيران التي تنادي بالوحدة أليس من الواضح أن لها أطماعا توسعية؟! وكذا الذين يقولون إن الوحدة لا تكون إلا عن طريق الكتاب والسنة، ألا يلتفتون إلى مناهج أهل السنة أنفسهم في قبول ما هو سنة أولا، ثم في فهمها ثانيا؟
إن هناك معنيين للوحدة، أما الوحدة المطلقة فهي لله تعالى وحده، فالله تعالى واحد وحدة حقيقية مطلقة؛ فلا ثاني له، ولا شبيه ولا نظير ولا شريك.
أما الوحدة المجملة فهي كأن تقول: إنسان واحد، ومعلوم أن الإنسان أبعاض وأجزاء متغايرة متكاملة، وكما يقال: بيت واحد، والبيت حجرات وسقوف وجدران، وكما يقال: فريق واحد، والفريق أفراد وأشخاص.
لا يمكن أن تكون هناك وحدة بإلغاء التعدد، ولا بقسر الناس على منهج واحد، ولا يمكن أن تكون هناك وحدة بوجود هذه الأطماع وتغليب المصالح الضيقة، ولا يمكن أن تكون هناك وحدة حين تغيب الأخلاق.