رأي «الراي» الكويتية-
من يتمعن في الاتفاقات التي أبرمت بين الجانب الكويتي الذي ترأسه سمو رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك وبين الجانب الفرنسي يلمس تحوّلاً نوعياً في أسلوب العلاقات الكويتية الدولية في اتجاه استثمارها لخدمة المواطن الكويتي بشكل مباشر.
هذا التحوّل هو ما كان يتطلع إليه الكويتيون منذ زمن بعيد، وما كان الغيورون على مصلحة البلد يطالبون به ليل نهار، فالعلاقات مع العالم كانت شبه محصورة بين دفتين: الأولى تقديم مساعدات مباشرة وغير مباشرة تعزيزاً لدور إنساني تقوم به الكويت عن قناعة، والثانية اقتصار غالبية الاتفاقات مع الدول الكبرى على صفقات تسليح، أو تحالفات من الدرجة الثانية خارج الناتو، أوتبادل تجاري معروف لمصلحة من يميل ميزانه، أو دراسات واستشارات جلّها في مجالات النفط ومشتقاته ومشاريعه وبعضها يتعلّق بالإدارة والتطوير والتدريب... طبعاً هناك مَن سيخرج مِن الأدراج مشاريع أخرى للدلالة على إنجاز هنا أو تقدم هناك ولذلك قلنا «غالبية» ولم نقل الكل، ومع ذلك فالمواطن لم يحصد مباشرة نتائج ذلك.
اليوم حصلت نقلة نوعية في زيارة باريس، نقلة تجعلنا نتساءل عن مليارات خطة التنمية السابقة وكيف صرفت من دون أن يلمس الكويتي منها غير طريق شق هنا أو جسر يرتفع هناك، فيما الكهرباء تنقطع والمياه تشح والمدارس بلا صيانة ومكيفات والمستشفيات لم يكتمل بناؤها والجامعة تنتظر... إلى آخر ما تزخر به وسائل الإعلام يومياً. بمعنى آخر إن التنمية المكرسة لخدمة البشر صرفت أموالها لخدمة الحجر وما زلنا ننتظر من يحاسب.
الاتفاقات التي أبرمت في فرنسا حرّرت العلاقات الدولية للكويت من الدفتين اللتين ذكرتا سابقاً. كانت محطة إيجابية حضارية لمصلحة كل الأطراف وسيلمس المواطن الكويتي مباشرة نتائجها طبعاً إذا أحسنت الإدارات متابعتها وتنفيذها.
إنشاء فرع لجامعة السوربون العريقة في الكويت سيوفّر بيئة علمية رائعة للكويتيين من جهة وينشئ جسراً للتبادل الحضاري والثقافي والفكري بين البلدين من جهة أخرى، والأمر نفسه ينطبق على عقد التدريب المهني بين الهيئة العامة للتعليم التطبيقي وأكاديمية باريس، والاتفاقية بين مدرسة أودينسيا المرموقة وجامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا، وأخرى مع المعهد الفرنسي لعلم الآثار والعلوم الاجتماعية، والتعاون الإعلامي مع إذاعة راديو فرانس إنترناشيونال، وتحلية مياه البحر بين معهد الكويت للأبحاث العلمية وجامعة بيربيغنان، والتعاون بين المؤسسات المالية الكويتية ومؤسسة (بي.بي.آي فرانس)، وإنشاء صندوق كويتي يخصّص للاستثمار في شركات فرنسية رائدة في مجالات الصحة والتكنولوجيا المتطورة، وإنشاء مركز لأبحاث السرطان في الكويت... إضافة إلى اتفاقات أخرى أمنية وعسكرية.
نعم، للمرة الأولى وبهذا الزخم، يأخذ البعد العلمي والطبي والتطوير البشري والخدماتي حصة أكبر من الاتفاقات الأخرى، وهو الأمر الذي سيرتد على المواطن إيجاباً بما في ذلك المشاريع التي ستساهم فيها الكويت في فرنسا، فالاستثمار في مصانع هناك يجب أن يقرن بوجود محلي للتدرب والتمرس وضمان نقل هذه التجارب إلى الكويت لاحقاً بعقول وسواعد كويتية.
هذه الاتفاقات يجب أن تكون نواة نهج حكومي مستقبلي لا رجعة عنه، والنواة يجب أن تكبر لتشمل اتفاقات أوسع بكثير في الإطار نفسه ومع دول أخرى. لتؤسس جامعات أميركية وبريطانية عريقة فروعاً لها عندنا، وليكن لمستشفيات دولية ألمانية وكندية حضورها في الكويت، ولتفتح الشركات الضخمة مكاتبها ومصانعها في الكويت ونصبح قاعدة خليجية وشرق أوسطية لمصارف العالم، ولنبدأ في الاستفادة من موقعنا الجغرافي كحلقة وصل بين الدول والقارات ومقر للتخزين وإعادة التصدير، ولنعقد اتفاقات زراعية وأخرى للتغلب على التصحّر مع دول مثل أستراليا ونيوزلندا... وهذه كلها لا تساوي في الحسابات الفعلية ما صرف سابقاً على خطة قيل إنها «تنمية» طارت معها عشرات المليارات.
عندما تخطئ السلطة التنفيذية لا بد من رأي معارض للتنبيه والتحذير والمحاسبة، وعندما تصيب لا بد من الدعم والإشادة والتشجيع فهذا ما تريده الكويت وهذا ما يحتاج إليه الكويتيون. ولذلك، أكثر من المحطات الحضارية يا بو صباح في جامعات ومستشفيات ومصانع ومعاهد العالم، وليكن ما فعلتموه في باريس مقدمةً لتأسيس منظومة اقتصادية – علمية - اجتماعية تنقل الكويت تدريجياً من الاعتماد على مصدر واحد للدخل يحكم ويتحكم بالموازنات والمشاريع... إلى مصادر متعددة تحفظ لنا مستقبلاً بين الأمم.