محمد المزيني- الحياة السعودية-
منذ أن انطلقت فعاليات الحراك الإسلاموي في المملكة، تطلعت أرواح الشبيبة وفق مرئياتها الخاصة للدين التي كانت تغذيها مرجعياتها وتعاليمها الجديدة إلى أن تقوم الدولة بتحقيق معدلات عالية من متطلباتهم، وعلى أخصها تطبيق النموذج الإسلامي وفق مواصفاتهم الخاصة تلك التي لا يصادق عليها الواقع، لذلك ظل الموقف من السلطة عدائياً على رغم محاولة الأخير لمجاراة بعض متطلباتهم المعقولة، وهذا بدورة غذی أرواحهم وعقولهم بما هو أبعد من الواقع نشداناً لدولة إسلامية خالصة لم تشبها شائبة وغير متصلة بشكل أو بآخر بمظهر من مظاهر الحداثة الجديدة المتصل بالغرب الكافر، لذلك تنامى هذا الطموح بينهم كعقيدة حركية أصبحت فيما بعد تمثل لب العمل الصحوي.
اقتربت فيما بعد من أجنحة دينية خلاصية متطرفة، وللأسف باركها وجاراها المجتمع السعودي الممتلئ بالدين، المجتمع الذي أثبت قدرته على النسيان والانسياق والتبعية بعد كل الويلات التي جرَّها عليهم فهمهم الخاطئ للدين، كما لم تكن الصحوة السعودية بمعزل عن القيم السلفية الجهادية ذات البعد التاريخي فتأثرت بها، فتلونت الحركة الصحوية بقيم حركية خارجية وقيم عقدية داخلية، فتميزت عن بقية الصحوات الإخوانية في الأقطار العربية، لذلك كانوا الأسرع والأقرب إلى بوابات الجهاد الأفغاني ضد السوفيات، فوجد منظرو الإخوان فرصة ناجزة لدعم هذا التوجه الجهادي؛ تسريعاً لتحقيق الغاية الكبری لهم، المتمثلة بقيام الخلافة الإسلامية علی أرض الله، ومع ذلك دعمتها الدولة بالسلاح والعتاد من أجل القضاء على الاتحاد السوفياتي.
عند هذه النقطة اختلط العاملان السياسي والديني، فبدا أمام قادة المجاهدين ضرورة مرحلية للعب مع السياسي، فقامت الأجنحة الجهادية بإجراء العديد من الصفقات مباشرة مع الأميركيين كما هو معروف، بينما المجاهدين الصغار ظلوا مأسورين مأخوذين بقيادتهم، لا ينازعهم في ذلك أدنی شك يذكر، بل بالعكس كانوا يتسابقون إليهم بتضحيات كبيرة وتسليم مطلق، تأكد هذا برؤية أوضح قبيل تأسيس القاعدة التي تركت عمليات التفاوض مع قادتها في البداية للأميركيين، مع مفاوضات عدائية مباشرة لا يمكن وصفها إلا بالمفاوضات الفوقية، لذلك وسعت من شقة الخلاف وباعدت بين الرؤى، وجعلها نداً مستهدفاً لها وكانت سبباً مباشراً في تأسيس ما سمي فيما بعد بالقاعدة أواخر عام 89، ذات البعد السياسي، وتأكد من خلالها العمل بصورة أوضح وأدق لدولة الخلافة، إذ لم يعد العمل الجهادي مقتصراً فقط علی العمليات الجهادية الموجهة ضد محتل ما، بل أخذ صيرورة منهجية مختلفة تمت وفقها مبايعة خلفاء جدد للدولة الإسلامية القادمة؛ قادرون علی تحقيق هذا المبتغی السياسي الملتبس، والمؤسس وفق مبادئ عقدية وشرعية، وبذلك قطعت علی نفسها العمل حتى آخر قطرة دم.
وإزاء هذا الميثاق الجديد بدأ العمل علی تحديد نطاق العمل الجهادي وفق استراتيجية مؤسسة علی الدين بتصوراته ورؤاه الأشد عنفاً؛ متخذة من الشباب الصغار حطباً لهذه الرؤى الطوباوية، الذين رأوا في المواقع المشتعلة في العالم الإسلامي قاعدة لانطلاقاتها، فمن أفغانستان إلى البوسنة ثم إلى الشيشان، فما أن خبا نجم القاعدة من دون الأفول مع انطلاقة ثورات الربيع العربي، حتى سطع نجم «داعش» في أهم بقعة (العراق والشام)، ذات الخصائص التاريخية كدارين لأهم دولتين إسلاميتين (الأموية والعباسية) والجغرافية والحساسية المفرطة من حيث علاقاتها الطائفية المتوترة التي عززت منها حزمة سياسات فاشلة للأنظمة القمعية القائمة، لم تختلف كثيراً في الرؤية والمنهج القديمين، إنما اختلفت في الأدوات المستخدمة في التجنيد، إذ أصبح الوصول إلى الشباب سهلاً طيعاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والآلة الإعلامية ذات التقنية العالية، والأسهل في الوصول للمجندين، عدا أولئك المجندين من عصابات الدول الأخرى من ذوي الخبرة القتالية والكفاءة، الذين قاتلوا في صفوف القاعدة في مواقع مختلفة من العالم، لذلك لن نستغرب انحدار كثير من الشباب من هذه البقاع لغايات وأغراض متعددة كالتجارة والجاسوسية والهرب من واقع ما أو بحثاً عن الشهادة، أما تجنيد شبابنا فقد تم واستشرى بواسطة وكلاء مفوضين من مشايخ ومجاهدي الصف الثاني، المتغلغلين بين أوساط الشباب السعوديين، حتى أن بعضهم آمن به وبايعه من دون أن يراه، لأسباب عدة.
بدت الكراهية للدولة السعودية أساً من أسس الانتماء إليها، على خلفيات تاريخية منها ما ذكرناه أعلاه، من أن الدولة التي دعمت الجهاد الأفغاني لم تبارك القاعدة منذ تأسيسها، كما قامت مضطرة لحربها بعد مناصحة ووساطات مع مؤسسها للرجوع عما عقد العزم عليه من تدشين حرب مضادة للأميركيين ومن في فلكهم، لذلك وضعت في عين العاصفة الإرهابية «الداعشية» بعدما استلمت الراية منها، هذه حقائق تاريخية لا يمكن تجافيها ونحن في طريقنا لتشخيص ما تتعرض له المملكة من حملة «داعشية» شعواء من خلال شبابها المجندين، الذين ينجذبون بسهولة لحملاتها الدعائية؛ لأسباب سنأتي عليها فيما بعد. الشيء الجدير بالفهم، أن حرب هذه الجماعات الدينية المتطرفة على المملكة بوصفها دولة تنفرد بتطبيق الشريعة الإسلامية من دون غيرها، هو حرب (مغايرة)، تستند على الأنموذج، بمعنى أنه لا يمكن أن ينهض أنموذج آخر يستبد بالمنهج الإسلامي ما لم يكن مستبطناً القوة في تمثيله، وهذه القوة لن تكتمل إلا بتحطيم النموذج الإسلامي الآخر، وهذا ما استقر في عقول شباب الحراك الصحوي، لذلك لو أمعنا التدقيق والتفحص في خطاباتهم، لن تجد من بينها ذاك الذي يبارك الدولة السعودية بتطبيقاتها الشرعية، فيأتي الصمت معبراً عن هذا التصور المستبطن.
هذا الصمت أيضاً يمارس في المواقف غير المعلنة لمباركة «داعش»، حتى وإن خرجت الأصوات مستنكرة للقتل المجاني لأبرياء على هامش الحملة القتالية ضد الآخر الحائل من دون تحقيق طموحات الدولة.
وعلى وجه الخصوص رجال الأمن، إن أردتم التأكد فاستمعوا إلى خطب الجمع، القليل النادر منها من ترتفع يديه بالاستنكار والدعاء على «داعش» تحديداً بشكل مباشر، إضافة إلى بعض مشايخ الصحوة الذين كانوا ولازالوا يباركون القاعدة، فهم أيضاً يمارسون سياسة الصمت اليوم تجاه ما تقترفه «داعش»، إذاً نحن أمام فصيل جهادي انتحاري لا يستهان به، مدعوم ومعزز بخصائص من أهمها: الإيمان بالرسالة، والتصديق الكامل، والقيم الواضحة المغروسة في أذهانهم وأرواحهم عبر ما يصلهم من رسائل صيغت باحترافية عالية، والأهداف المحددة، والاستسلام المطلق، والاستعداد للموت، وقبل هذا وبعده قيادات سرية تعمل ليل نهار لمتابعة التجنيد وتسهيل عمليات الوصول والتنفيذ، فما لم تخمد الحروب الطاحنة في سورية بأي شكل وثمن فلن تنتهي «داعش» ولن تستقر لنا عين، وإطالة مدى الحرب هو تمدد وتوسع عدداً وعدة لـ«داعش».