الخليج الجديد-
يمكن اعتبار تنظيم «الدولة الإسلامية»، (داعش)، ظاهرة عالمية، فانتساب 20 ألف مسلح مقاتل إليه من 80 دولة، يجعله قضية دولية، تناقض أي خصوصيات. لكن القضايا التي تتعلق بالتنظيم، والجماعات السلفية الجهادية عموما، تكتسب أهمية مضاعفة في بعض الدول، لظروف سياسية وتاريخية مختلفة.
السعودية من الدول التي يتصف فيها النقاش بشأن «الدولة الإسلامية» بحساسية مفرطة، لأسباب عدة، يمكن تلخيصها بالاتهامات المتكررة بمسؤولية «الوهابية» عن التطرف الإسلامي، ونشأة الحركات الجهادية. خصوصا في ظل الماضي الجهادي السعودي في أفغانستان، بالإضافة إلى التحاق سعوديين كثيرين بتنظيمي «الدولة الإسلامية» وجبهة النصرة في العراق وسورية، حتى أن عضو مجلس الشورى السعودي السابق، «خليل الخليل»، صرح قبل أشهر إن 60% من الشباب السعودي جاهزون للالتحاق بـ«الدولة الإسلامية»، ما أثار جدلاً كثيراً في وقته.
في هذه المسألة، يجد الباحث نفسه أمام أرقام متباينة، يصعب الاعتماد عليها وحدها لتفسير مسألة التحاق الشباب السعودي بتنظيم «الدولة الإسلامية». فمثالاً، نجد أن أعداد السعوديين الملتحقين بالتنظيم يقارب 2500 شخص من بين أكثر من 21 مليون سعودي. بينما عدد التونسيين فيه نحو 3000 شخص، مع أن تعداد الشعب التونسي نحو نصف عدد السعوديين.
ويأتي اختيار تونس هنا بالنظر إلى انطباع سائد عن وجود اختلاف بين المجتمعين، على مستويات نوعية التعليم، والتدين، والموقف من الدين والدولة. ويمكن الاستدلال على هذه الاختلافات الاجتماعية من خلال أرقام «المؤشر العربي»، والذي يصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث يظهر المؤشر 2014 أن الموقف من التدين والتكفير والعلمانية مختلف بشكل ملحوظ بين المجتمعين. فبينما يرى 38% من السعوديين أنفسهم «متدينين جدا»، تصل النسبة إلى 7% في تونس.
بينما نجد أن رفض «تكفير الذين يحملون وجهات نظر مختلفة في تفسير الدين» جذرياً، يصل إلى 60% في تونس، بينما لا تتجاوز النسبة في السعودية 20%. على مستوى العلاقة بين الدين والحياة السياسية والاجتماعية، نجد أن 21% من السعوديين يرون وجوب فصل الممارسة الدينية عن الحياة السياسية، بينما تتضاعف نسبة الموافقين على هذا في تونس، لتصل إلى 46%.
تضعنا هذه الأرقام أمام ارتباك، لماذا وعلى الرغم من وجود تباين على مستوى الأرقام، في مسائل التدين، والموقف من علمانية الدولة، كما في دعم «الدولة الإسلامية» وتأييده، نجد أن عدد التونسيين الملتحقين بتنظيم داعش يزيد عن عدد السعوديين، على الرغم من الفرق الهائل في عدد السكان، ما يعني أن العدد بالنسبة للسكان يصل إلى الضعف.
يرى بعضهم أن هذا التباين لا يحمل مؤشراً على اختلاف حقيقي، باعتبار أن التيارات السلفية التونسية، تلك الشبيهة بنمط التدين في السعودية، هي التي أنتجت هؤلاء الجهاديين. لكن هذا الأمر يصعب إثباته، إذ إن كثيرين ممن يذهبون إلى مناطق القتال في العراق وسورية هم من غير المتدينين أصلا، جديدهم مغني الراب التونسي، مروان الدويري، فالقول إن الجهاديين يأتون من خلفيات سلفية فقط أمر تدحضه الوقائع. لذا عقدت المقارنة هنا بين المجتمعين ككل.
رؤيتان متعارضتان
طرح هذا التساؤل مباشرة على باحثَين سعوديين، يمتلكان وجهتي نظر متعارضتين حول الموضوع: هل السعوديون أكثر قابلية من غيرهم للانضمام إلى التنظيمات الجهادية؟ ولماذا؟
يرى الباحث «عبد الله المالكي»، وهو متخصص في الشأن الإسلامي، أن السعوديين أكثر قابلية للالتحاق بالتنظيمات الجهادية. ويعيد الأمر إلى أسباب عدة، يمكن تلخيصها في العامل التاريخي المتعلق بنشأة الدولة، والإيمان بالوحدة الإسلامية، وحضور الصحوة الإسلامية، وتأثيرات «اللحظة الأفغانية».
ويشرح المالكي النقطة الأولى بقوله: «هناك ما يمكن تسميته بالارتباط الوجداني بين فكرة الجهاد والشخصية السعودية، وذلك للارتباط التاريخي بين الكيفية التي نشأت من خلالها الدولة السعودية، وفكرة الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فالكيان السياسي الذي ينتمي إليه السعوديون لم يتأسس عبر تفاهمات سياسية مع المستعمر قبل رحيله، أو عبر توافقات عشائرية أو مساومات سياسية اجتماعية محلية ونحو ذلك، وإنما عبر السيف، تحت راية الجهاد في سبيل الله، وقتال (المشركين/ المرتدين) المعارضين لفكرة التوحيد السياسي والعقائدي. فالسردية التاريخية لنشوء وقيام الدولة السعودية القديمة والحديثة، سردية جهادية بامتياز».
أما عن العامل الثاني، فيرى «المالكي» أن هناك تأثيرا لنمو وازدهار فكرة (الوحدة الإسلامية) و(التضامن الإسلامي) في الشعور والوعي السعودي، خصوصا منذ الستينيات ومطلع السبعينيات، حين دعا الملك «فيصل» إلى مشروع (التضامن الإسلامي) الذي اقترحه تحالفاً سياسياً بين الدول الإسلامية، ليكون المقابل والبديل للقومية العربية العلمانية التي دعا إليها جمال عبد الناصر.
أدى هذا التوجه، بحسب «المالكي»، إلى نشر الوعي بمحن وآلام المسلمين، وترسيخ الأيديولوجيا المبنية على اعتبار سائر المسلمين شعباً واحداً، يتحمّل كل فرد من أفراده مسؤولية الدفاع عن الأفراد الآخرين في أوقات المحن. يصف «المالكي» تلك اللحظة بقوله «بات التيار الإسلامي الوحْدوي التيار الغالب في السعودية في مقابل التيار العروبي الوحدوي الذي كان يتزعمه الرئيس عبد الناصر».
يضيف «المالكي»: «ثم جاء العامل الثالث متزامناً ومكملا للثاني، وهو: اجتياح موجة التدين والمحافظة مع بداية الثمانينيات، وانبثاق ما تسمى (الصحوة الإسلامية) ذات الخلفية المركّبة من الوهابية العقائدية والإخوانية الحركية. وكان سبب اجتياح هذه الظاهرة، بروز تطورين مهمين: انتصار الثورة الإيرانية (الدينية) والتي باتت تنازع السعودية في قيادة العالم الإسلامي، وحادثة احتلال الحرم المكي سنة 1979، والتي دفعت النظام السياسي إلى إبطاء عملية التحرر الاجتماعي والتحول الحداثي الذي كان يواكب الطفرة النفطية في السبعينيات، في مقابل توسيع صلاحيات المؤسسات الدينية وزيادة موازناتها المالية».
أدى هذا، بحسب «المالكي»، إلى مسارعة العلماء والدعاة إلى انتهاز الفرصة لتعميم التعاليم الوهابية الصارمة، وتوطيد التدين فيما يتعلق بالسلوك الأخلاقي. مع إغلاق دور السينما ومنع المذيعات من تقديم النشرات الإخبارية، ومراقبة رجال هيئات النهي عن المنكر الفضاء العام، على نحو أشد من أي وقت مضى، لتطهير كل ما يخالف مظاهر "الاستقامة". وتأتي «اللحظة الأفغانية» لتتوج كل هذه العوامل التي تجعل السعوديين أكثر انجذاباً للتيارات الجهادية.
يرى «المالكي»، أنه ونتيجة للغزو السوفياتي في عام 1979، ومطالبة المنظمات الإسلامية ومراجع الفتوى الدينية بإعلان الجهاد لمناصرة الشعب الأفغاني وطرد المحتل السوفياتي. وتحت وطأة التراجع في أسعار النفط في أواسط الثمانينيات والذي أحدث أزمة اقتصادية حادة وخطيرة، أرغمت المملكة على التراجع عن وعودها بتوفير وظائف لخريجي الجامعات والاستمرار في توفير الرفاه الاقتصادي، في مقابل انبثاق حركة الصحوة وصعودها بعد منتصف الثمانينيات، وازدهار خطابها الحركي الذي كان يحفز على البذل والتضحية بالنفس، لأجل نصرة المضطهدين في العالم الإسلامي.
يقول «المالكي»: «رأت الحكومة في الدفاع عن قضايا الوحدة الإسلامية وسيلة نافعة لصرف بعض التذمر المحلي، وصرف الشحنة الدينية الشعبية لدى الشباب بعيدا عنه». وفي هذا السياق، يشير أيضا إلى نقطة أخرى ترتبط بالموضوع، وهي أن الحديث عن «العوامل المحفزة للشخصية السعودية، لكي تكون أكثر قابلية للانضمام للجهادية الإسلامية» من وجهة نظره، لا تعمل وحدها بمعزل عن العوامل السياسية الدولية والإقليمية، كفشل نموذج الدولة العربية الحديثة في تحقيق العدالة الداخلية وعجزها عن الدفاع عن قضايا الأمة، كذلك فشل (النظام الدولي الغربي) في المحافظة على العدالة والمساواة فيما يتعلق بشعوب العالم الإسلامي، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، إضافة إلى انفجار الصراع الطائفي، والاستفزاز الإيراني بتدخلاته السافرة وفرض هيمنته على المجتمعات العربية.
وينفي الكاتب «سلطان العامر»، وهو طالب دراسات عليا في جامعة جورج واشنطن الأميركية، وجود أي خصوصية سعودية تجعل السعوديين أكثر قابلية للانضمام للتنظيمات الجهادية. والمقصود بهذه التنظيمات، بحسب العامر، الحركات السياسية التي تتوسل العنف للدفاع عن المسلمين في العالم، سواء ضد الجيوش الأجنبية الغازية، أو ضد الحكومات المسلمة القمعية.
ويجادل «العامر» بأنه يستطيع توضيح هذه النقطة بطريقتين: توضيح فساد حجج الخصوصية، وتقديم حجج تفسر الانضمام لهذه التنظيمات بشكل عابر للمحليات والخصوصيات. ويرى «العامر» بأن أبرز هذه الحجج تلك التي تتعلق بالعقيدة الوهابية والتي ينسب لها عادة قوّة وتأثير خاصين يدفع معتنقيها للانضمام إلى التنظيمات الجهادية. حيث تصاغ باعتبار أن الوهابية أكثر انتشاراً بين السعوديين فهذا يجعلهم أكثر قابلية للانضمام لهذه التنظيمات الجهادية.
يقول «العامر»: «هذه الحجة باطلة من جهتين، فمن ناحية إحصائية، فقد شكل السعوديون مكوناً كبيراً في الجهاد العراقي والسوري، إلا أنهم ليسوا المكون الأكبر، فالليبيون أكثر منهم في الجهاد العراقي، والتونسيون أكثر في الجهاد السوري».
هذا على الرغم من أن السعوديين أقرب جغرافيا، وأعلى في مستوى الدخل، ولديهم حرية سفر وتنقل أكثر من الليبيين (كانوا يعيشون تحت الحصار) والتوانسة (الأقل في مستوى الدخل). بل حتى في الجهاد الأفغاني في الثمانينيات، والذي لدينا عنه معلومات تفصيلية موجودة في كتاب (الجهاد في السعودية)، نجد أن أغلب السعوديين المشاركين قدموا من أقل المناطق وهابية (الحجاز)، ومن خلفيات أيديولوجية غير سلفية (إخوانية).
ويضيف «العامر»: «من ناحية أيديولوجية، ليس لدى الوهابية كأيديولوجيا مفهوم للأمة خارج الدولة، فالأمة هم الذين يعيشون داخل الدولة، ومن يعيشون خارجها كفار، أو مبتدعة، أو ضلال». ويرى أنه حتى عندما تبنت الوهابية مفهوماً موسعاً للأمة بعد تداخلها مع الأيديولوجيا الإسلامية الحديثة، فإنها دائماً ما ربطت الجهاد بموافقة ولي الأمر.
ولهذا، إن كانت الأيديولوجيا تمنح خصوصية ما، فإن هذه الخصائص الفكرية للوهابية ستجعلنا نتوقع أن المنتمين لها سيكونون الأقل قابلية للانخراط في التنظيمات الجهادية.
وبشأن ثاني الحجج التي تتعلق بـ «الصحوة الإسلامية»، يقول «سلطان العامر»: «تمضي هذه الحجة لتقول إن السعوديين أكثر قابلية للمشاركة في الحركات الجهادية، لأن الصحوة أعادت تشكيل وعيهم وهوياتهم بطريقة تجعل وعيهم وبنيانهم النفسي أكثر قابلية للتفاعل مع الأفكار والمشاريع الإسلامية العابرة للدولة».
ويرى «العامر» أن هذه الحجة تغفل أن الصحوة، أو صعود الحركات الإسلامية في السبعينيات، كظاهرة عابرة للدولة، وجدت في غالب الأقطار العربية والإسلامية، ولا شيء فيها يجعلنا نعتبر الحالة السعودية استثنائية. ويحاول طرح تفسير مختلف لانضمام الشباب للمنظمات الجهادية، يرى أن المنظمات الجهادية من أشكال «مؤسسات التضامن الإسلامي الأممية»، مثل منظمة الهلال الأحمر، والمنظمات الإغاثية والطبية والدعوية الإسلامية العابرة للدولة.
ويقول: «تشكل هذه المنظمات الأممية فيما بينها شبكة متداخلة وفضاء تواصلياً يجمع عددا كبيرا من المسلمين حول العالم قائماً على هوية إسلامية مشتركة، وقيم وتصورات محددة تركز بشكل كبير على مآسي المسلمين ومصائبهم من أجل استحثاث الدعم لهم».
ضمن هذا الفضاء التواصلي والقيمي، تبرز التنظيمات الجهادية كحركات تطرح خيار الدعم العسكري كأحد أشكال هذا الدعم، وضمن هذه الحجة يكون المسلم في أي مكان قابلا للانخراط في هذه التنظيمات، كلما زاد انخراطه وتعرضه لهذه الشبكة من المؤسسات والفضاءات التواصلية والخطابات "فالمسألة بحسب العامر لا تحتمل خصوصية لدول بعينها.