نصري الصايغ – السفير اللبنانية-
نزفت الضاحية. كانت قد نزفت من قبل مراراً وتكراراً. الوحش أمَّها للقتل. قتل كثيرين لا يعرفهم. لم يصدف أن التقى الوحش بأحدٍ منهم. قتلهم لأنهم ليسوا وحوشاً مثله... لا يُروَّض الوحش أبداً، ولا يروِّض الوحش الضاحية. ذرفت دموعها، لملمت أشلاءها، داوت جراحاتها، وتستعدّ لمنازلة الوحش في الميدان، أينما كان. يُقاتل الوحش بالكلام وبغير الكلام أيضاً.
نزفت باريس، كانت قد نزفت من قبل. مشهد «شارلي ايبدو» المختصر، ناهزه المشهد الباريسي الليلي قتلاً. قتل الوحش فرنسيين كثيرين لا يعرفهم. لم يصدف أن التقى الوحش بأحد منهم. قتلهم لأنهم ليسوا وحوشاً مثله... الوحش أمَّها للقتل، وللقتل فقط. رأت باريس الوحش سافراً وقوياً ومجتاحاً. زرع فيها رعباً استثنائياً... لا يُروَّض الوحش أبداً، ولا يروِّض الوحش باريس... ذرفت فرنسا دموعها، لملمت أشلاءها المئة ونيفاً، وتستعد لمنازلة الوحش، ولكن أين وكيف ومتى؟
من أيام معدودة، أبكى الوحش روسيا كلها. المرجح، أنه زرع القنبلة في طائرة. انفجرت وتناثرت أشلاء. الوحش في كل مكان. يملأ الزمن العربي ويتجرأ على الزمن الدولي. يضرب في العراق، فيضرب في سيناء. يضرب في الشمال السوري، فيضرب في لبنان، يؤنَّب في تركيا، فيضرب في اسطمبول... الوحش فالت. لم تتعرف البشرية على وحش عالمي مثله. وحتى اللحظة، ما زال يتبارى ويتفوَّق في توزيع القتل وتعميمه. وحده، يقتل ويقاتل الجميع، والجميع منصرفون عنه بحسابات قاتلة.
لا يمكن تعداد جرائم الوحش. لا يمكن تخيُّل ما سيأتي على يديه من قتل. هو صاحبة الموهبة الجحيمية في ابتداع الرعب وتعميم الأهوال. لا أحد ينجو من رعبه. ما يصدره عبر وسائل الإعلام، كفيل بزعزعة الإيمان وطرد الثقة وإعلان العجز... إنما الحياة، بفضائها الإنساني، ملزمة بالدفاع عن نفسها، وليس أمامها إلا مقاتلة الوحش. من دون ذلك، لا فرار. المسالك كلها مغلقة.. فإما يكون الوحش ولا تكون، وإما العكس. هذا الوحش لا يعترف بالتفاوض، لا يقيم وزناً للمعايير، يحتقر القيم، يدوس القوانين، يحقِّر المقدَّسات، ولا يقبل السلام مع أحد... مطلوب منك أن تستسلم له أولاً، وأن يقبل استسلامك بعد تفتيشك من الداخل وإذلالك إلى حد الانسحاق. إنه لا يؤمن بغير توحّشه، وربّه يُشبهه.
إعلان «داعش» عن «الدولة الإسلامية في العراق والشام» استخفّ به كثيرون. تعاملوا معه على أنه تنظيم، يشبه التنظيمات المتداولة. لم يكتشف أكثر، أن «داعش»، بغزواته الفائزة، قد تحوّل إلى «دولة إقليمية عظمى»، باستراتيجية عالمية أعظم. استراتيجيته المسجلة في وثائقه، والمدعّمة بالحجج «الدينية» والأحاديث «المنسوبة» والسابقين من «الصحابة»، إضافة إلى ذخر عقدي سلفي يعود إلى منابع ذات ثقل وازن، كابن تيمية و «الوهابية» وسواها، تستند إلى ضرورة انتظام البشرية في سلك «السلف الصالح». وكل ما عداها كفر يستحق العقاب الأقصى... وليست هذه المرجعيات الدينية كافية... استراتيجية الوحش مبنية على اعتقاد مُثبَت بالوقائع: لقد انتصر الجهاديون الإسلاميون على الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، أفغانستان كانت مقبرة الجيش العملاق. وبات العالم بعد ذلك بقطب واحد على رأسه أميركا. ومَن هزم السوفيات قادر على هزيمة الغرب الرخو بزعامة أميركا القوية... هذا ليس تنظيماً. هذه دولة تنفذ استراتيجيتها من خلال إعلان دولة الخلافة الرهيبة، لإقامة حكم الله في الأرض.
أمس الضاحية. بعدها باريس، وغداً القاهرة، وبعدها اسطمبول، ومن يدري، فقد يصدّق في غزوة الفاتيكان وفي غيرها من عواصم الحواضر وعواصم الروح. تدمّر، روح الحضارات، وقد تمّ غزوها وتدميرها. وكما الله واحد أحد، كذلك دولة الخلافة واحدة ولا دولة سواها. ولأنها كذلك، فهي تختلف عن «القاعدة» الأم، وعن «الإخوان المسلمين» الرحم الذي أنجب وحوشاً، آخرهم، الوحش الداعشي.
عدو «داعش» العالم كله. وكل الأسلحة مسموحة. فهو، عندما يقتل في الضاحية أو باريس أو... فإنما يقتل عدواً كافراً، يقف في طريق «المشروع الإسلامي». وهذا مثبت في أدبياته وفي سلوكياته. مسموح كل شيء، مراضاة لوجه الله، إلهه. هو مقتنع بأنه يقوم بالواجب الأمثل والأعلى، يقاتل لنصرة الله وليس لنصرة من دونه وما دونه. وكل العالم مقيم في ما دونه وعند من دونه.
هل فهم العالم هذا؟
لا يبدو أنه عرف أنه عدو، ولو كان في جبال الهملايا. هو عدو إيران والسعودية واليمن ودول الخليج والعراق والشام ولبنان ومصر وليبيا والجزائر. عدوّ أوروبا كلها، الشرقية والغربية وإسرائيل معها، هو عدو العالم كله... ولكن العالم، ما زال يحسب بطريقة أخرى. والأدلة كثيرة.
رفع كثيرون الشعار التالي: «الحرب على الإرهاب». هذا غير صحيح. ما تزال الحروب الأخرى كلها، أهم من الحرب على الإرهاب. ما زالوا يحسبون حسابات الأنظمة، وحسابات الدول، وحسابات الإثنيات، وحسابات المذاهب والطوائف... في حساب «داعش» يتساوى هؤلاء جميعاً. في حساب هؤلاء، «داعش» مؤجل، إلى ما بعد، بعد.. بعد أمور كثيرة، بين الضاحية وباريس أخوّة دم، أم جهة واحدة لعدو واحد هو الوحش التكفيري: «داعش» تحديداً، ومن مثله أصلاً وفصلاً وفروعاً. الذين التقوا في فيينا لمرتين لحل الأزمة السورية، مختلفون على النظام وما بعد النظام. هل قتال «داعش» أولاً، أم إسقاط النظام السوري الذي يساهم ميدانياً في قتال «داعش». في العراق، يختلفون في قتال «الدولة»، إذ لا يبدو مقبولاً أن يكون الحشد الشعبي، ذو الغلبة الشيعية، هو الذي يتصدى لـ «داعش» السني. النظام في سوريا غير مستعد لتقديم تنازلات لمعارضة سورية متعددة للتفرغ لقتال «داعش» ومن مثله. والمعارضة تتأرجح بين تبييض صفحة جبهة تكفيرية، وبين تسويد صفحات هي منها. وأميركا تناوش، الروس انتقائيون، الأتراك يولون الكرد الأولوية، والسعودية، (مرضعة التكفيريين المزمنة) مصرّة على قتال رأس النظام في سوريا، قبل قتال «داعش».
ماذا يعني هولاند بحرب لا هوادة فيها ضد «داعش»؟ أين هي جبهة القتال؟ مَن ينتظم فيها؟ مَن يعتبر الأولوية في القتال هو «داعش»؟
بين الضاحية وباريس، دمع ودم. يصعب أن يكون هناك جبهة واحدة ضد الإرهاب. لأن الكثير من الغرب والعرب، متمسك بخلط الإرهاب والمقاومة، ويصر على اعتبار «حزب الله» إرهاباً.
دمع كثير سيُذرف. دماء كثيرة ستسيل. ليس سهلاً تغيير عادات العالم السيئة. لهذا يعيش العالم أفدح لحظاته. إن تاريخه، هو تاريخ القتل والرعب والخوف والجوع والتسلط.
ما بين الضاحية وباريس وحش واحد... والخلاف بينهما مستقيم. وسبب الجبن الغربي، خوفه من إسرائيل.