علي القاسمي- الحياة السعودية-
يتساهل العامة في مسألة أن تكون داعية وصاحب خطاب ديني ومنبر وعظي. كنت في سنوات طويلة أتأمل تجارب كثير من الدعاة حولي حين تحولوا في لمح البصر من مشاهير الشارع ونجوم ابتكاراته ومغامراته ليحضروا إلى مساحات الدعوة، لأن ثمة من أقنعهم بأنهم الخيار الأمثل المناسب لتوعية الشارع واحتواء الشباب والتغذية بالفكر المناسب للرحلة والمرحلة. أقف ضد التحول المفاجئ في رغبة شاب لتصدر منبر الدعوة والنصح والإرشاد وهو لم يكمل حتى الرضاع في الإلمام بما يتطلبه التصدر لأمة من الناس وجمهور يتخدر عاطفياً إذا ما حدثه أحد من بوابة الدين أياً كان هذا الحديث وبعيداً من كيفيته، فمزيج من التهديد والوعيد والتذكير بعذاب القبر ومسح نبرات الصوت بخامة من الانكسار وذبذبات الدموع كفيل بأن يجعل المستمعين كافة على مقربة من الثقة الكاملة بأن المتحدث حالة إيمانية مستثناة وصوت قادم بقوة إلى ساحة الدعوة والمحاضرات والإرشاد.
في زمن راحل مضى، مع بقاء شيء من هوامشه وعضلاته المترهلة، كان بإمكان من يملك حرفين أو سطرين في مهارات الاتصال وقدرات التخاطب أن ينطلق في حديث متشعب لا تدري أين هي بدايته ومتى ينتهي بالضبط؟ هذا الحديث لم يكن لولا أن قناعاتنا كانت تولد بناء على الكاريزما وخداع المظاهر وفتنة القول والقناعة في أن كل من تظهر عليه سيم وملامح المتدين هو أفضل من الآخرين في كل شيء، من دون أن يخطر بالبال أن ثمة من كان يستغل هذه القناعات وبقدر رفيع من الذكاء يلخص في أن خداع العامة لا يحتاج إلى جهد وافر، بل ينقصه دغدغة سطحية للمشاعر وضخ كمية يسيرة من التخويف وتعزيز مفاهيم التخوين والشكوك، وأننا دوماً على صفيح ساخن من دون أن نمس الجراح الحقيقية ومناطق الإرباك والخوف.
المؤسسة الرسمية الحاضنة للدعاة يجب ألا تكتفي بالتعميم ورمي الكرة من ذمة مسؤول أعلى لمسؤول أدنى، فهي في توقيت حرج لإيقاف حملة التساهل في ارتداء عباءة داعية وواعظ بتجرد أليم من أي حضور ثقيل يُعلَم ويعرف ويوثق فيه، فإذا ساهم متحول ما من ساحات المراهقة والتفحيط والإزعاج في تسويق نفسه وتلميع حاضره على حساب ماضيه فالذنب ذنبنا قطعاً، صحيح أن من حقه التلميع والتسويق المتدرج لذاته وتحولاته، لكن ليس على حساب المتلقي الطازج المفتتن بأي اسم جديد ونبرة مختلفة، ومن حقه فعل كل هذا لكن لا باللغة الشوارعية المبررة بكونها الآلية المثلى للوصول المباشر إلى عقول النشء والشباب وهواياتهم وأن اللغة المخجلة جزء مهم في الطرح والمضي للزاوية التي يفهمون منها أكثر.
لا أعتقد أن المجتمعات في حاجة إلى مزيد من الدعاة في ظل التوسع المتزايد لمصادر المعلومة وتنوع موارد التوعية. نحن في أمس الحاجة إلى تقنين مفردة داعية إلى الحد الذي يصبح فيه من يرتدي عباءة الدعوة والوعظ ملماً بالتحديات، مفرغاً من الأزمات الداخلية، وواعياً بما يحيط من التحديات والتهديدات. إن مزيداً من الدعاة في الوقت الحالي دون تدقيق وتأكيد في محتوى العرض وماهية العارض، ليس إلا منطقة مخيفة ومقلقه نظن أنها تخدم النشاط الديني، ونتناسى أن في الميدان وفي الصف من يستوعب لحظات الحماسة والصراخ ويدخل في نوبات صراع نفسية إذا كان الحديث عن توبة وذنب ويخطط لمجهول. لا يجوز أن يكون أسهل ما يحدث لدينا إعلان قدوم داعية، فإما أن يكون داعية ثقيلاً لا مأزوماً ولا تائباً من تجربة طويلة وقريبة أو أن نكتفي بما يصل لنا من الضخ الديني المتواصل من النوافذ المتاحة الأخرى وهو كافٍ، وإن لم يصل بالمتلقين إلى نسبة وعي تتقاطع مع حجمه ورسمه، وهنا نتوقف لحرج نقطة السطر الأخير.