فهد الدغيثر- الحياة السعودية-
لا يمكن لأي مراقب بل ولا حتى مواطن عادي قليل الاهتمام بالأحداث ومتابعتها أن يغفل عن الحملة المسعورة ضد المملكة في بعض وسائل الإعلام الغربية أخيراً. إن كان الهدف من هذه الحملات الغربية، وهي تحديداً صادرة هذه الأيام عبر وسائل الإعلام البريطانية، ينبع من الحب والغيرة على بلادنا، وهذا مستبعد بالطبع، فأهلاً وسهلاً به. قبل أسبوعين فقط أعلنها الملك سلمان بقوله: «رحم الله من أهدى إلي عيوبي». وإن لم يكن من دوافع المحبة وهذا هو الأرجح، فعلى الأقل سنستفيد منه كونه قد ينبهنا إلى مكامن القصور في مسيرتنا، وبالتالي نبدأ بالمعالجة والتصحيح عندما نتفق على ضرورة ذلك ونراه مهماً في مسيرة بناء وطن الغد.
ما يميز الغرب عن غيره والحديث عن الحملات المضادة للمملكة أن الغرب على الأقل، واحتراماً لقرائه ومستمعيه في المقام الأول، يتحدث عن حالات معينة وموجودة سواء اتفقنا أم اختلفنا على صحتها. بينما الحملات المضادة للسعودية من الأشقاء العرب والجيران تعتمد التهريج والبذاءة والسباب والشتم على نمط وتهريج بعض «المعارضين» المقيمين في لندن. ويا للعجب، إذ وعلى رغم طول الإقامة في مدينة الضباب العريقة لم يتعظ ولم يتعلم هؤلاء ولا حتى مبادئ الطرح ولم يطهروا أفواههم من قذارة الكلمات التي ابتلوا بها.
لكن لماذا تحول الغرب فجأة، وهو الحليف التقليدي للمملكة ويتبادل معها المنافع التجارية الضخمة، إلى ناقد شرس وبشكل لم يسبق له مثيل؟ هناك عوامل عدة، من أهمها، برأيي، التغير الكبير في مواقف المملكة والمتمثل بهمها في قيادتها تحالف عسكري إقليمي كبير لوقف المد الفارسي في اليمن. ليس لأن الغرب يقف مع إيران ومحاولاتها المستميتة للتمدد، ولكن لأن المملكة بقيادتها لهذا التحالف لفتت الانتباه ووضعت لنفسها مكانة رفيعة باعتبارها دولة إقليمية كبرى. بمعنى أنها لم تعد ذلك الكيان الذي يعتمد على وجود قاعدة عسكرية غربية تحميه من العدوان الخارجي، بل كيان يبادر بالهجوم ويضع التكتيك ويقاتل بقدرات جيشه الذي تدرب وبمهارة فائقة وشجاعة قوية على أكثر الأسلحة تطوراً وفتكاً. (أثناء مراجعتي لمسودة هذا المقال كنت استمع لمقابلة مسجلة للدكتور تركي الحمد في برنامج «حديث العرب» الذي تبثه قناة «سكاي نيوز العربية» وأشار أيضاً إلى هذا السبب تحديداً) أقول لهذه الأسباب، وربما لغيرها، كان لا بد من أن يتعارض هذا الفعل وهذه المكانة مع مصالح البعض الإستراتيجية سواء في الغرب أو في الشرق وحتماً مع مصالح الخصوم في المنطقة. أقول ربما أن لهذه المكانة والحضور القوي للمملكة علاقة بهذا الهجوم.
على أن الغرب المحموم هذه الأيام ضد المملكة وبصرف النظر عن الأسباب، لا يجد لدينا ما يتحدث عنه سوى مواضيع الحقوق. وهذا معروف، فالمملكة ليست تلك الدولة القمعية التي تغص سجونها بالمعارضين السياسيين الذين لم يخضعوا للمحاكمات، وليست تلك الدولة التي تم نهب أموالها ولم تنفق المليارات على تطوير البنى التحتية الضخمة وأول من استفاد من ذلك اقتصادات الغرب نفسه، ويا لها من مفارقة. كما أن المملكة من النواحي الإنسانية من أكبر الدول الداعمة لمناطق الكوارث الطبيعية حتى وصل دعمها لولاية لويزيانا التي تعتبر ضمن ولايات الدولة الأعظم اقتصاداً وتطوراً في العالم. دعم المملكة لم يفرق إطلاقاً بين المتلقي سواء أكان أبيضاً أم أسوداً، مسلماً ومسيحياً أم بوذياً، بل ووصل إلى دعم ضحايا الزلزال في إيران، الدولة التي يرى حكامها أن المملكة تعتبر عدوتهم الأولى.
لذا فمواضيعهم، التي يسعون عبرها للنيل من المملكة، دائماً تدور حول حقوق المرأة وهذا جيد في نهاية المطاف. ليس الغرب فقط هو من ينتقد ذلك، بل نحن أبناء الوطن ممن نشأ فوق ترابه يفعل، ولا يعيبنا على الإطلاق باعتبارنا دولة حديثة ولدت للتو مقارنة بعدد من الدول العريقة الكبرى. الذي يبعث على الاطمئنان أن المملكة ماضية بثبات لتجاوز هذه العلة التي لم يزرعها لا دين ولا عقيدة بل مجرد عادات وتقاليد عفا عليها الزمن، إذا قارنا وضع المرأة الآن في عصر صدر الإسلام. الجدير بالذكر أن الحكومة السعودية يراها الكثيرون على أنها أكثر تحرراً من هذه التقاليد مقارنة بغالبية الشعب الذي ترتعد فرائصه وإلى وقت قريب بمجرد ظهور اسم الأم في بيان معلن للعامة. هذه الحكومة بدأت بالفعل في إشراك المرأة في عموم تفرعات القوى العاملة في البلاد بل وفرضت ذلك بالقوة في بعض قطاعات البيع بالتجزئة، على رغم المعارضة الشديدة والتقوقع من بني جلدتنا مع الأسف. الحكومة نفسها من فرضت ما لا يقل عن ٣٠ في المئة من أعضاء مجلس الشورى نساء. وستظهر قوانين مدونات الأحوال الشخصية لتنصف الجميع وتمنحهم حقوقهم سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً. بقي التخلص من حرمان المرأة من قيادة سيارتها بنفسها، وهذه علة العلل التي لم تأتينا من مستعمر ولا من متآمر بل من عقولنا فقط. الحقيقة أنه لم يعد مقبولاً أن يستمر هذا الحرمان وقراءتي تشير إلى قرب السماح للنساء بقيادة السيارة وطي هذا الملف الذي أخل كثيراً بمنظومتنا الاجتماعية والأسرية عندما فرض على كل بيت أن يضع مأوى لسائق أجنبي نجهل في الغالب خلفيته وسلوكه وأخلاقياته.
هناك من يلقي التهم للمملكة بدعم الإرهاب فكراً على الأقل، وكون المملكة تخلق أجيالاً من الإرهابيين، وجاء ذلك ضمن بعض تلك الحملات لكن هذا لا يمكن أن يستقيم. فكون أن هناك بعض المرضى من شباب المملكة ممن ينضم إلى «داعش» أو «القاعدة» فهذا طبيعي، والسعوديون ليسوا إلا عود في حزمة العديد من الدول، ومنها دول غربية عريقة في ديموقراطياتها وانفتاحها. لست مضطراً لتوضيح التشكيلة العجيبة لفريق «داعش» بحسب أسماء الدول التي ينتمون إليها، ذلك أن العالم اليوم وبأسره بات يدرك من هؤلاء ومن أين أتوا. المضحك أن من يتهمنا بذلك يغمض عينيه عن حقيقة أن المملكة ومكتسباتها تأتي في طليعة الأهداف التي يسعى «داعش» لتدميرها، وأن المملكة تملك واحدة من أعظم منظومات الأمن قوة في مواجهة هؤلاء واختراقهم والقبض عليهم أو مواجهتهم بالقتل قبل القيام بتنفيذ مخططاتهم. فكيف يشك عاقل في أن المملكة لا تحارب هؤلاء المارقين، فضلاً على سعيها الدؤوب لتجفيف المنابع وتنقية الدروس والخطب التي مازال بعض الحركيين المتحزبين يستغلونها لأسباب تخصهم وتنفع توجهاتهم المشبوهة؟ ومن غير الحكومة السعودية والغالبية الساحقة من شعبها الكريم المسالم قادر على فعل ذلك؟
بعيداً عن كل هذه التهم والحملات، فهل هناك دولة في العالم لا تواجه ذلك سواء في الشرق أم الغرب من وقت لآخر، المملكة وبحكم المكان والزمان مقبلة بلا شك على تحولات كبيرة وضخمة. لم يعد الحديث عن هذه التحولات ترفاً وتجميلاً بل ضرورة ملحة فرضتها كينونة الوطن اليوم وديموغرافيته، والذي لم يعد وطن الستينات والسبعينات من القرن الماضي. التحول الأهم والأكثر تحدياً هو التحول من دولة الرفاه التي اعتادت تطبيق الاقتصاد الريعي منهجاً للتنمية إلى دولة المسؤولية والمشاركة والإنتاج. اقتصاد دولة الرفاه كان ممكناً مع قلة عدد السكان لكنه اليوم أصبح مستحيلاً مع عدد السكان الذي يتجاوز الـ٣٠ مليون نسمة. وهذا التحول وهنا تكمن الأهمية والخطورة، لن يحدث بجرة قلم ولن ينجح ما لم يكن مقترناً بتشريعات عدة ومعقدة وبعضها قد يشكل تطبيقها ما يصل إلى مستوى الاختراقات لما ظن البعض أنها من الأعراف والخصوصية. بعضها الآخر وفي شقه المالي قد يشكل مفاجأة للكثيرين ممن لم يعتاد الشعور بالمسؤولية مواطناً وعاش معظم حياته كما يعيش الطفل المدلل. في جميع الأحوال يمكن القول إن ما سنمر به من تغييرات يعتبر منعطفاً تاريخياً مهماً ولا خيار أمامنا إلا عبوره بحذر، ولكن أيضاً بنفوس مطمئنة وعزيمة لا تلتفت إلى الخلف ولا تتثاءب. وفي ظني أن التحضير لمثل هذا العمل الضخم سيحتاج إلى حملات إعلامية ضخمة وذكية لتهيئة الناس له وبالتالي قبوله وتأييده، فكما قيل اليد الواحدة لا تصفق.
هل نقول لمن انتقدنا شكراً؟ نعم شكراً لكم وإن كانت النوايا حميدة بالفعل فقفوا معنا وادعموا مسيرتنا وشاركونا بخبراتكم وتجاربكم فنحن للتو بلغنا الستين عاماً وأنتم تاريخكم بالقرون. ادعمونا لتعم المصالح ويزيد ميزان التبادل التجاري، ونضيف إلى تبادل الأموال التبادل الثقافي والتاريخي والإنساني بكل أبعاده وننطلق من التحيز للمواجهات والتحديات والعبث بها من دون وعي إلى التصالح والمشاركة في بناء منظومات الحقوق والتنمية البشرية الشاملة في واحدة من أهم مناطق العالم في ثرواتها وتاريخها وحضاراتها.