د. سعيد الشهابي- الخليج الجديد-
منذ ان أسس بيرسي كوكس، للعلاقات الدبلوماسية الوطيدة بين بريطانيا والملك عبد العزيز آل سعود قبل قرن واحد، استمر التواصل الحميم بدون انقطاع على مدى اكثر من مائة عام. ربما تعرضت تلك العلاقات لشيء من التوتر ولكنها استمرت في تصاعد حتى بلغت ذروتها في السنوات الاخيرة.
وإذا كانت تلك العلاقات قد تأسست في حقبة تأسيس المملكة السعودية الحالية، عندما كانت الاواصر بين اطراف الجزيرة العربية ومركزها فضفاضة وغير مستقرة، فان قيام مجلس التعاون الخليجي قبل حوالي 35 عاما، قد غير الخريطة تماما. فالنفوذ السعودي على المنطقة اصبح يضغط على الموقف البريطاني الذي كان يستند الى ارث تاريخي عمره قرابة القرنين.
كانت بريطانيا هي الدولة ذات الهيمنة المطلقة على مشيخات الخليج منذ توقيع «الاتفاقية العامة» في 1820، ولم تكن الدولة السعودية قد قامت آنذاك. وما تزال بريطانيا تتمتع بنفوذ على الدول الخليجية الخمس، فيما يتأرجح النفوذ السعودي عليها بين القوة والضعف.
مع ذلك ستجد بريطانيا نفسها في وضع حرج لو اضطرت لاتخاذ اي قرار كبير تعتبره السعودية اهانة لها او تقليلا من ثقلها الاقليمي او تعريضا لها للمزيد من المواقف الدولية المناوئة. بل ان الوضع الخليجي اليوم يختلف كثيرا عما كان عليه قبيل تأسيس مجلس التعاون الخليجي عندما نشبت ازمة سياسية بين المملكة وبريطانيا بسبب بث فيلم «موت اميرة» في 1980 الذي اعتبرته الرياض عملا عدوانيا يستهدف سمعتها والنيل من انتمائها الاسلامي.
يومها اضطر وزير الخارجية البريطاني آنذاك، اللورد كاريغتون لاستخدام لغة اعتذارية خففت من الغضب السعودي، ولكنها أثارت بعض اعضاء البرلمان وقطاعا واسعا من وسائل الاعلام. تلك الازمة كادت تعصف بالعلاقات، وكادت الرياض تقوم بطرد السفير البريطاني في الرياض، السيد جيمس كريج، احتجاجا على بث القناة البريطانية الثالثة ذلك الفيلم الذي يروي قصة قتل اميرة بسبب علاقاتها خارج الاطار الشرعي.
ليس من المتوقع ان تتخذ بريطانيا قرارا بوقف السلاح عن المملكة العربية السعودية، برغم تصريحات وزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، الذي قال بانه لو ثبت ان القوات السعودية ارتكبت جرائم حرب في اليمن، فستقوم بريطانيا بوقف السلاح البريطاني عنها. وليس سرا ان السعودية تستخدم طائرات تورنادو وتايفون اللتين اشترتهما من بريطانيا في القصف الجوي لليمن.
فما الذي دفع وزير الخارجية لاطلاق تصريحاته في هذا الوقت تحديدا؟ قبل اسبوعين فقط كان الوزير ضيفا على الرياض، للتخفيف من أثر قرار حكومته الغاء صفقة صغيرة قيمتها اقل من ستة ملايين جنيه استرليني لتدريب كوادر سعودية في مجال السجون والقضاء. كما ان هناك زيارة مزمعة لرئيس الوزراء البريطاني للرياض لتوثيق العلاقات معها وتجاوز آثار ذلك القرار الذي اغضب السعوديين.
يضاف الى ذلك ان هناك مجموعات ضغط عديدة تعمل لصالح المملكة وتضغط على الحكومة البريطانية لعدم اتخاذ خطوات شديدة تساهم في تأزيم العلاقات بين البلدين.
لكن عاملا آخر ربما يساهم في إذكاء صراع جديد على النفوذ الاقليمي. فعودة بريطانيا الى المنطقة يساهم في تعقيد الامور كثيرا لاسباب شتى.
اولها ان السياسة البريطانية معروفة بنهجها الهادىء وتخطيطها الذي يهدف لتحقيق الاهداف بوسائل لا تستفز الاطراف الاخرى وربما لا تثير التفاتهم. وحتى وقت قريب كانت المملكة العربية السعودية تنهج سياسة مشابهة، فقد كانت تتحرك خلف الكواليس وتتميز سياساتها بالهدوء وعدم التصادم العلني مع الاطراف التي تختلف معها.
ثانيها: ان بريطانيا تعلم ان دورها الجديد يتأسس على خلفية التدخلات الامريكية المكشوفة على مدى ربع قرن، اي منذ ازمة الكويت في 1990. وتضافرت الاساليب الامريكية في المواجهة مع رغبة سعودية في استغلال الفراغ الذي حدث بعد انتهاء نفوذ صدام حسين منذ ذلك الوقت، فأدى ذلك الى نتيجة اصبحت تمثل اختلافا عميقا بين واشنطن والرياض.
وفيما انشغلت الولايات المتحدة بقضايا الشرق الاوسط منذ العام 1990، حدث فراغ في مناطق اخرى سمح بصعود نجم الصين وكذلك الهند. ويبدو ان القرار الامريكي بنقل ثقلها العسكري الى جنوب شرق آسيا والمحيط الهادىء انما هو محاولة لاعادة التوازن الدولي لصالحها. ولكن سرعان ما تبين ان هذا القرار ادى لتطور آخر لم تحسن امريكا له حسابا، يتمثل بعودة روسيا للمنطقة بسرعة فائقة.
وساهمت الثغرة التي وفرها غياب الدور الامريكي الفاعل في سوريا في تشجيع الروس على التدخل العسكري غير المسبوق منذ اجتياحها افغانستان في 1979.
وفي الاسبوع الماضي اعلنت موسكو انها وقعت اتفاقا نهائيا مع ايران لتزويدها بمنظومة صواريخ اس اس 300 بعد تعثر استمر سنوات. وهكذا اصبح ميزان القوى في الشرق الاوسط متأرجحا، الامر الذي مهد الطريق لتوسع المنظمات الارهابية خصوصا داعش التي كشفت الاسبوع الماضي قدرتها على اختراق اجهزة الامن الغربية واحداث دمار بشري في العاصمة الفرنسية يوصف بانه الاكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
العودة البريطانية للمنطقة تواجه تحديات عديدة من بينها توسع دائرة الارهاب وتصلب الانظمة السياسية ازاء المطالبة الشعبية بتطوير انظمتها السياسية واحترام حقوق الانسان. ومن بينها كذلك حالة الصراع بين السعودية وايران على النفوذ، التي تتجلى في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وافغانستان.
اما العامل الاكثر تحديا للعودة البريطانية فهو احداث توازن في النفوذ مع السعودية.
فالاوضاع اليوم ليست كما كانت قبل قرنين عندما كانت اساطيل «بريطانيا العظمى» تمخر البحار بدون منافس. فالسعوديون يسعون لفرض دور اقليمي لهم. وليس مستبعدا ان تكون بريطانيا قد ادركت ان عودتها للمنطقة لن تكون بالسهولة التي تصوروها، وان بناء قاعدة بحرية في البحرين، بدعوة وتمويل من حكومتها، ربما اضاف تعقيدا للتحالفات، واثار حفيظة السعوديين.
مع تصاعد النغمة في اوساط حزب العمال المعارض بعد صعود جيريمي كوربين الى رئاسته، فقد بلغ الغضب السعودي تجاه بريطانيا ذروته. ولا يبدو ان زيارة وزير الخارجية البريطاني للرياض ساهمت في تخفيف حدة التوتر كثيرا. وقد تعول بريطانيا على بعض الدول الخليجية الداعمة لتلك العودة، في مقابل التحسس السعودي، ولكن هذا يعني اشعال حرب داخل مجلس التعاون الخليجي نفسه، الامر الذي لا يريده الطرفان ولا ترضى امريكا بحدوثه.
وليس من قبيل المصادفة ان تأتي تصريحات وزير الخارجية البريطاني بعد فترة قصيرة من زيارته للرياض، بل ان ذلك مؤشر لتوتر في العلاقات يتصاعد تدريجيا وينذر بتبعات لا تتوقف عند حدود البلدين.
قد تكون السعودية في وضع صعب، ولكن الموقف البريطاني ليس في موقف اسهل، بل ان قرار لندن العودة للمنطقة مرهون بالتوصل لصيغة مع السعودية وايران، تجعل تلك العودة مقبولة من كافة الاطراف، وليست تحديا لواحدة من الدول المعنية.
قد تكون التهديدات البريطانية بتقصي الحقائق حول دعاوى «جرائم الحرب» جادة، ولكن ما يترتب عليها لن يختلف عما تمخض عن اللجنة البرلمانية للعلاقات الخارجية التي قدمت توصيات مهمة للحكومة البريطانية تحثها على متابعة تنفيذها.
مع ذلك فشلت بريطانيا في الالتزام بتلك التوصيات، الامر الذي يمثل احراجا لها امام البرلمانيين. أيا كان الامر فمن المؤكد ان منطقة الخليج ستشهد «حربا باردة» ليس بين ضفتيه فحسب، بل بين بريطانيا والتحالف الذي تقوده السعودية، ولن يكون طريق عودتها محفوفا بالازهار، كما يتصور بعض حكام الخليج.