سليمان الضحيان- مكة نيوز السعودية-
في تفجيرات داعش الإرهابية الأخيرة والتي ضربت باريس، أجمعت الآراء من كل الأطياف الفكرية في عالمنا العربي على استنكارها، بعض استنكرها من حيث المبدأ، وبعض آخر من حيث عدم تحقق مصلحة، ووقوع مضرة على المسلمين، وبعض ثالث استنكرها مسايرة للأغلبية، وإن كان يخفي في نفسه الفرح بها.
وإذا تجاوزنا الفريقين الأخيرين؛ لأن الخلاف معهما مبدئي، وليس هذا مجال الحديث عنه، يبقى لدينا الفريق الأول، وهو من استنكرها من حيث المبدأ، ورأى أنها جريمة مروعة طالت الأبرياء، لكن قسما من هذا الفريق يصنفها ضمن منطق الحرب القذرة التي تنشب بين الفرقاء المتعادين، ويكون من ضمن ضحاياها المدنيون الأبرياء، ولهذا فإن استنكاره إياها يقرنه بالتذكير بجرائم الحروب.
وحجته في هذا وجود سجل كبير من جرائم الحروب التي وقعت في القرن العشرين، فمن ذلك ضحايا الاحتلال الفرنسي للجزائر، إذ بلغوا أكثر من مليون شهيد، غالبهم من المدنيين، وكثيرا ما قطعت الرؤوس، وعلقت على الأشجار لإرهاب القرويين، وتم إصدار طوابع بريدية للجيش الفرنسي، تحمل صورا للرؤوس المقطوعة.
ومنها قيام الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية عام 1945 بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، بما فيهما من مدنيين من أطفال، ونساء، وشيوخ، وقد قتلت تانك القنبلتان ما يصل إلى 140 ألفا في هيروشيما، و80 ألفا في ناجازاكي، والغالبية العظم منهم مدنيون.
وفي حرب فيتنام سقط ضحية لها أكثر من مليون مدني، ومن ضمن جرائم الحرب الأمريكية في فيتنام استخدام الرش الكيماوي لتدمير القرى، والمزارع، والمصانع، والغابات، بما فيها من بشر، وحيوانات، ونباتات.
وما زالت أمريكا ماضية إلى اليوم في شن حروب يقع ضحية لها أبرياء مدنيون، ففي مقال للمؤرخ البريطاني نيال فرجسون نشرته صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) ذكر أن إحصائيات أمريكية رسمية كشفت عن أن غارات الطائرات بدون طيار في ظل إدارة أوباما قد قتلت ما بين 3570 إلى 5763 شخصا في باكستان، واليمن، والصومال، وأفغانستان، بينهم 400 إلى 912 مدنيا، و82 طفلا على الأقل.
وقد قال الطيار السابق براندون براينت الذي شارك في قتل نحو 1600 شخص «إن الضربات بها نوع من عدم الدقة، فقد عملت نحو خمس سنوات في قصف أهداف سرية في أفغانستان وباكستان، وإن الطيارين يفتقدون إلى الرؤية الكاملة لتحديد أماكن إطلاق النار، فالصورة مظلمة، ولا نرى سوى ظل الناس، ونقتل هذا الظل».
وفي كتاب (حرب الطائرات دون طيار/ القتل عن طريق التحكم عن بعد) لمؤلفته ميديا بنيامين ذكرت أنه في الأشهر الثلاثة الأولى لغزو أفغانستان قضى نحو ألف مدني أفغاني بسبب الغارات الجوية.
وفي حرب غزة الأخيرة تشير الإحصائية التي أعدها المرصد الأورومتوسطي إلى أن عدد الضحايا الإجمالي بلغ 2147 قتيلا، منهم 530 طفلا، و302 امرأة، و23 قتيلا من الطواقم الطبية، و16 صحفيا، و11 قتيلا من موظفي وكالة (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة، وأن القوات المسلحة الإسرائيلية لم تأخذ بالتدابير اللازمة لحماية المدنيين، وشنت عليهم وعلى ممتلكاتهم هجمات عشوائية في العديد من الأحيان، وقد أدى هذا إلى تدمير 17132 منزلا، منها 2465 منزلا دمرت كليا، و14667 منزلا دمرت جزئيا، إضافة إلى 39500 من المنازل لحقت بها أضرار، وتم تدمير 171 مسجدا، 62 منها دمرت كليا، و109 دمرت جزئيا، وأن عدد من أصبحوا بلا مأوى من جراء هدم منازلهم تجاوز مئة ألف إنسان من سكان غزة.
ومسلسل قتل المدنيين ما زال مستمرا في سوريا من جراء القصف الروسي، فحسب إحصائية المرصد السوري لحقوق الإنسان سقط من جراء ذلك القصف حتى الآن 403 مواطنين مدنيين، من ضمنهم 97 طفلا، و69 امرأة، و237 رجلا وفتى، يضاف إليهم آلاف المدنيين الذين وقعوا ضحايا من جراء هجمات النظام، وحزب الله، وداعش، وبقية الفصائل المقاتلة في سوريا.
هذا غيض من فيض من أعداد المدنيين الأبرياء الذين وقعوا ضحية للحروب المدمرة في القرن العشرين، وهذا هو منطق الحرب القذرة سواء كانت من دول، أم منظمات، أم أحزاب، فضحايا باريس من عداد أولئك الضحايا الأبرياء، فيجب استنكار ذلك كله.
لا شك أن هذه المرافعة، وهذه الحقائق تؤكد لدينا مبدأ استنكار قتل أي بريء بغض النظر عن دينه، أو قوميته، أو لغته، وبغض النظر عن قاتله سواء كان منظمة إرهابية، أم جيشا نظاميا.
لكن هذا لا يجب أن يحجب عنا فداحة العمليات الإرهابية التي ترتكبها المنظمات التي تنسب نفسها إلى الإسلام، وذلك لثلاثة أسباب، الأول: أن تلك المنظمات تتعمد قتل المدنيين بحجة تأييدهم لحكوماتهم، فالمدني في هذه الحالة هدف مقصود بالقتل، وهذه جريمة بشعة دنيئة لا يقرها دين، ولا عقل، ولا يشاركها فيها إلا النازية.
والثاني: أن قرن الاستنكار بالتذكير بجرائم الحروب الغربية وغيرها يفهم منه تهوين الجريمة، ومحاولة تبريرها، وهذا ما ينتج تطبيع الجمهور مع مثل تلك الجرائم، والتماس الأعذار لمرتكبيها.
والسبب الثالث: أن تلك الجرائم ترتكب باسم الإسلام، حيث يؤصل لها مرتكبوها دينيا، وهذا ما يجعل الدين الإسلامي نفسه وأتباعه كلهم في قفص الاتهام في المخيال الشعبي لشعوب العالم كله، ولهذا فاستنكارها من الجهور المسلم يجب أن يكون مضاعفا، وقويا، ومسموعا من العالم كله، لعل ذلك يدرأ عنهم ما علق عنهم في الرأي العام من تهمة.