يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل- الرياض السعودية-
مما استقر من قواعد الشريعة أنه لا يجوز لجماعة الأمة، فضلا عن آحادها، أن تخرج إلى الجهاد، أو أن تدعو إليه قبل أن يستنفر الإمام الأمة. ومصداق ذلك نجده في كثير من الآيات والأحاديث النبوية، منها قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض".
والدلالة الدقيقة هنا نجدها في الفعل المبني للمجهول في الآية (قيل)، إذ هو يشير إلى فاعل معلوم في الحال، هو النبي صلى الله عليه وسلم، بصفته إمام المسلمين، والذي له وحده حق استنفار الأمة للجهاد. ثم استقر هذا الحق لأئمة المسلمين من بعده. ومنها قوله تعالى: "عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين"، وقوله تعالى: "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوا".
إن تجاوز الإمام في الدعوة إلى القتال لا يعدو أن يكون خروجا عليه. ذلك أن مثل هذه الدعوات إنما تعبر عن عدم اعتراف للحاكم بأحد أهم أركان سيادته، وهو تقرير الحرب والسلام،
وقوله صلى الله عليه وسلم:"لاهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". وهكذا توضح هذه النصوص، وغيرها كثير، أن إمام المسلمين، أو الحاكم باللغة السياسية المعاصرة، هو وحده من يعلن الجهاد، مثلما له تحديد مكانه وشخوصه.
وتأسيسا على ذلك، كان للفقهاء رحمهم الله تعالى تأكيدات مهمة على هذا الأمر، نذكر طرفا منها.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "أربع من أمر الإسلام إلى السلطان، الحكم والفيء والجهاد والجمعة". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: "ويرون (أي أهل السنة) إقامة الحج والجهاد والجُمع مع الأمراء، أبرارا كانوا أم فجارا". بل إننا نجد ابن تيمية يقيد الدعوة للجهاد بالإمام بشكل قاطع لا مرية فيه، إذ يقول في (منهاج السنة): "الجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور". وهذا الإمام الطحاوي يعقد في (العقيدة الطحاوية) فصلا بعنوان (الحج والجهاد مع أولي الأمر)، يقول فيه: "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما". وهذا الفقيه الحنبلي منصور البهوتي يؤكد في (كشف القناع) على أنه "لا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير، لأنه أعرف بالحرب، وأمره موكول إليه". وهذا ابن قدامة المقدسي يقول في (المغني) "أمر الجهاد موكول للإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك".
ومن المعاصرين، يقول الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته): "وهذا الحكم المذكور، (استئذان الإمام في الجهاد)، في فرضية الجهاد جاء باتفاق الفقهاء". ويقول في موضع آخر من الكتاب نفسه: "أمْرُ الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده. فإذا وجدت دواعي القتال، وقرر الحاكم المسلم خوض المعركة مع العدو فذاك". ويقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في (الشرح الممتع): "لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر، لأن المخاطَب بالغزو والجهاد، هم ولاة الأمر وليس أفراد الناس، فالغزو بلا إذنه افتيات وتعد على حدوده".
ماذا سيحصل لو تُرِكَ تقرير أمر الجهاد لآحاد الأمة أو جماعة منها دون الإمام؟
الجواب نجده في ما قاله الشيخ محمد بن عثيمين في كتابه آنف الذكر:"... ولأنه لو جاز للناس أن تغزوَ بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه وغزا؛ ولأنه لو مُكن الناس من ذلك لحصلت مفاسد عظيمة".
هذا بالضبط ما سيحصل لو أتيح لآحاد الأمة، مهما عظم أو علا شأنه، أن يدعو الناس إلى القتال، أيا كانت دواعيه. والتاريخ، بقديمه وحديثه، يشهد بالفوضى العارمة، والخسائر الجسيمة التي تحل بالأمة عندما يُفتات على الإمام بالدعوة إلى القتال من دونه.
ولقد عانينا نحن في المملكة من الافتيات على حق الدولة، عندما سَمَح أناس لأنفسهم بتحريض شبابنا على القتال في الخارج دون تفويض منها. فلقد ادلهمت بنا الخطوب، واشتدت الكروب وضاقت بنا الأرض بما رحبت، ونحن نرى ونسمع عن آباء وأمهات فجعوا بفقد أبنائهم، وهم لما يزالوا طريي العود، ممن استجابوا لتلك الدعوات، فانغمسوا في الحروب التي جرت في الخارج، فمنهم من قُتِل، ومنهم من سُجِن، ومنهم من لا يزال مفقودا.
من المشاهد التي لا تزال عالقة بأذهاننا، مشهد (أم محمد)، تلك المرأة المريضة المقهورة، والتي خرجت ذات مساء في برنامج الثامنة وهي تبكي طفلها ذا السبعة عشر عاما، والذي غادرها ذاهبا إلى القتال في سورية. كان من جملة ما قالته أم محمد في ذلك المساء، وهي تغالب نشيجها، "أنا امرأة مريضة، وابني ضاع مني ويعذب الآن". وتؤكد وهي تبكي بحرقة على أن "صورته لا تفارق خيالها، وأن وضعها الصحي بسبب ذلك سيئ للغاية".
ثم تحدثت عمن غرروا بابنها قائلة: "هناك من خطط لخروجه وتوجهه إلى القتال في بلاد الشام، على الرغم من صغر سنه، إلى درجة أنه لا يعي كلمة جهاد". ثم وجهت خاتمة حديثها الممزوج ببكاء يكاد يقطع نياط القلب إلى أولئك المحرضين قائلة: "اتقوا الله فينا، نحن نصلي في الليل وندعو عليكم".
وأم محمد هذه ليست إلا نموذجا للعديد من الآباء والأمهات الذين فقدوا أبناءهم الذين لا يزال بعضهم في بدايات شبابه، ممن تأثروا بالدعوات التي توجه من بعض من افتات على الحكومة، وخرج عليها، وانتزع دورها في الدعوة إلى القتال خارج الوطن.
لقد خُطِف أولئك الصبية من حضن أمهاتهم وحنان آبائهم إلى حيث محاضن جماعات العنف والتكفير، ليكونوا وقودا لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ومن نجا منهم من القتل أو السجن، عاد ليكون خنجرا في خاصرة وطنه وأهله ومواطنيه. ولعلنا لا نزال نتذكر قائمة المطلوبين التي أعلنتها وزارة الداخلية بتاريخ 23 / 5 / 2015م، حينما فوجئنا حد الدهشة والوجوم من أن بعض أفراد تلك القائمة لم تتعد أعمارهم الخامسة عشرة بعد!.
ولا نزال نتساءل بمرارة: كيف تحول هؤلاء الأطفال إلى إرهابيين قتلة يناجزون دولتهم ومجتمعهم ومواطنيهم؟
لقد أفرزت لنا تجربتنا الطويلة مع نفير شبابنا إلى القتال خارج الحدود إرهابيين، يرون أن مناجزتنا ككفار أقربين، أولى من مناجزة الكفار الأبعدين!
إن تجاوز الإمام في الدعوة إلى القتال لا يعدو أن يكون خروجا عليه. ذلك أن مثل هذه الدعوات إنما تعبر عن عدم اعتراف للحاكم بأحد أهم أركان سيادته، وهو تقرير الحرب والسلام، لا سيما وهو حق حصري للحكومات، حتى في القوانين الوضعية!
هل لم نع بعدُ خطورة تجاوز دور الدولة في الأمور السيادية، وعلى رأسها الدعوات للمشاركة في الحروب التي تشتعل في الخارج؟
ألا يكفي ما عانيناه طوال تلك السنين من فقد لشبابنا، ومن لوعة وحرقة أسرهم عليهم، ومن تحول بعضهم إلى سهام في نحورنا؟