تواصل » صحف ومجلات

هل تنتهي «الدولة الأبوية» في السعودية؟

في 2015/12/22

عصام الزامل- الخليج الجديد-

تتواتر الأنباء عن حزمة إصلاحات اقتصادية جذرية مرتقبة في السعودية، تداولت تلك الأنباء والتسريبات العديد من الصحف العالمية، والتي تحدثت عن نية الحكومة في السعودية الإعلان عن حزمة من الإصلاحات الاقتصاديةلمواجهة انخفاض أسعار النفط ولإصلاح التشوهات الاقتصادية المتراكمة لعقود.

زاد مصداقية تلك التسريبات لقاء الصحفي الأمريكي «توماس فريدمان» مع ولي ولي العهد ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الأمير «محمد بن سلمان»، والتي تحدث خلالها الأمير عن ملامح خطته الاقتصادية، حيث أشار إلى أن أهم التحديات الاقتصادية التي تواجهها السعودية هو الاعتماد المفرط على النفط وطريقة إعداد وإنفاق الميزانية الحكومية. كما ذكر أنه يخطط لتقليل الدعم الذي يذهب للأثرياء، برفع أسعار الوقود والكهرباء والماء. وتحدث عن احتمالية فرض ضريبة مبيعات.

كانت العشر سنوات الماضية حافلة بمشاريع ضخمة في البنية التحتية، فمع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية استثمرت الحكومة السعودية مئات المليارات في مشاريع البنية التحتية، وارتفع الناتج المحلي (بالأسعار الجارية) من 1.2 ترليون ريال في 2005 إلى 2.8 ترليون ريال في 2014. أي بزيادة تجاوزت نسبتها 140%.

أسهم بتلك الزيادة الارتفاع الكبير في الإنفاق الحكومي المترافق مع ارتفاع أسعار النفط. كما أنفقت الحكومة بشكل سخي على قطاع التعليم وفتحت باب الابتعاث على مصراعيه، ولكن في المقابل خلت تلك الفترة تقريبا من إصلاحات اقتصادية جذرية - باستثناء الإصلاحات المتعلقة بسوق العمل وزيادة نسب التوطين في القطاع الخاص. أما اليوم فيواجه الاقتصاد السعودي تحديات حقيقية بسبب انخفاض أسعار النفط إلى ما دون 50 دولار للبرميل.

ورغم وجود احتياطيات ضخمة من العملة الأجنبية تصل إلى أكثر من 2500 مليار ريال إلا أنها قد لا تكون كافية لتفادي تأثير انخفاض أسعار النفط، فمستويات العجز مرتفعة، وستتجاوز 400 مليار ريال هذه السنة، وتقديرات صندوق النقد الدولي تشير أن هذا الاحتياطي قد ينفد خلال خمس سنوات إذا لم تقلص الحكومة السعودية إنفاقها بشكل كبير، حيث أنفقت الحكومة في عام 2014 أكثر من 1100 مليار، بينما لن تتجاوز عوائد الحكومة لسنة 2015، بسبب انخفاض أسعار النفط، 600 مليار سعودي.

كان الإنفاق الحكومي المتزايد هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي خلال السنوات الماضية، فقد ارتفع حجم المصروفات الحكومية الفعلية من 346 مليار ريال في عام 2005 إلى أكثر من 1100 مليار في عام 2014 أي بزيادة تتجاوز نسبتها 215%، كما أسهم في هذا النمو التدفق المستمر لأعداد كبيرة من العمالة الوافدة للمساهمة في مشاريع البنية التحتية، والتي ارتفعت في القطاع الخاص حسب الأرقام الرسمية من 3.6 مليون في عام 2005 إلى 5.7 مليون في عام 2014، بزيادة نسبتها 58%.

ترافق هذا النمو الاقتصادي مع ارتفاع كبير في مستويات استهلاك الطاقة، حيث ارتفع عدد البراميل النفطية التي نستهلكها محليا لإنتاج الطاقة من 2 مليون برميل في عام 2005 إلى 3.2 مليون في عام 2014، أي بارتفاع نسبته تجاوزت 60%.

بالإضافة لكل ذلك فقد ارتفعت أعداد الموظفين في القطاع الحكومي بنسبة كبيرة وتجاوز عددهم في 2014 أكثر من 3.2 مليون وارتفع إجمالي ما تدفعه الحكومة من مرتبات وبدلات إلى أكثر من 310 مليار ريال في عام 2014، أي أكثر من كامل المصروفات التي أنفقتها الحكومة في عام 2004، وهو يعني أن الحكومة تحتاج اليوم إلى سعر برميل نفط يتجاوز 30 دولارا فقط لتغطية فاتورة المرتبات الحكومية.

كما استمر الدعم الحكومي للوقود والكهرباء ومدخلات الإنتاج في المصانع وبعض السلع الاستهلاكية الأخرى، حيث تشير التقديرات إلى أن قيمة الدعم المقدم من الحكومة تتجاوز 300 مليار ريال سنويا.

كان النمط الاقتصادي في السعودية خلال العشر سنوات الماضية امتدادا للعلاقة الاقتصادية بين الحكومة والمواطنين خلال الأربعة عقود الماضية، وهي علاقة أشبه بالعلاقة الأبوية، الحكومة توفر احتياجات المواطنين، وتدعم أسعار السلع التي يحتاجون إليها، وتوفر لهم الوظائف الحكومية المريحة ذات المرتبات المرتفعة نسبيا، كما تسهم الحكومة في تقليل التكاليف على القطاع الخاص من خلال توفير الطاقة الرخيصة ومدخلات الإنتاج المدعومة وفتح الباب لهم لاستقدام العمالة الرخيصة.

ولكن هذا النوع من العلاقة الأبوية يعتمد استمراره بشكل شبه كامل على استمرار عوائد النفط المرتفعة، التي تمثل أكثر من 90% من دخل الحكومة. ومع انخفاض أسعار النفط إلى أقل من 50 دولار خلال أقل من سنة، فإن استمرار تلك العلاقة يبدو صعبا أو حتى مستحيلا.

ربما كان نمط الدولة الأبوية قابلا للاستمرار لمدة أطول لو كانت أعداد المواطنين بضعة ملايين، ولكن في بلد يتجاوز فيه عدد المواطنين 20 مليونا، ومجموع عدد سكانه يتجاوز 30 مليونا، فإن هذا النمط لا يمكن له أن يستمر، فالإنفاق الحكومي المتزايد رفع من سعر التعادل - وهو سعر النفط المطلوب لتغطية الإنفاق الحكومي - من أقل من 30 دولار في عام 2005 إلى أكثر من 100 دولار في 2015. حيث ارتفع مستوى الإنفاق الحكومي من 346 مليار ريال في 2005 إلى أكثر من 1100 مليار ريال في 2014.

كما أن الأعداد الضخمة من العمالة الوافدة رفعت من حجم التحويلات إلى الخارج، حيث تجاوز حجم الحوالات في سنة 2014، 150 مليار ريال، أي أنها تمثل أكثر من 25% من حجم العوائد النفطية المتوقعة لهذه السنة، كما أن تلك العمالة تكلف الحكومة أكثر من 50 مليار ريال كقيمة للدعم الذي تستفيد منه العمالة من استهلاك الوقود أو الكهرباء أو الغذاء.

أما استهلاك النفط محليا فقد تجاوز حجمه 4 ملايين برميل، وذلك من إجمالي إنتاج للنفط يصل إلى حوالي 11 مليون برميل، يتم تصدير حوالي 7 مليون منه إلى الخارج ويستهلك الباقي محليا. هذا النمو المتزايد من الاستهلاك المحلي للنفط سيؤثر مستقبلا في قدرة السعودية على تصدير النفط.

وما يزيد من صعوبة الوضع هو دخول أكثر من 3 ملايين مواطن لسوق العمل خلال العشر سنوات القادمة. لن تستطيع الحكومة أن توفر لهم وظائف في القطاع الحكومي المتضخم أصلا، كما أن القطاع الخاص يعتمد في نموه على نمو الإنفاق الحكومي، وبالتالي فإنه لن يكون قادرا على خلق ما يكفي من الوظائف لاستيعاب كل تلك الملايين من المواطنين في ظل الخفض المتوقع للإنفاق الحكومي مع استمرار انخفاض أسعار النفط.

ربما كانت النوايا جيدة في تبني نموذج الدولة الأبوية خلال العقود الأربعة الماضية، وكان صنّاع القرار يهدفون لرفع مستوى رفاهية المواطن، وإعادة توزيع ثروة النفط من خلال تلك القنوات. بالإضافة إلى ضمان الاستقرار السياسي الذي يرتبط بشكل مباشر بالاستقرار الاقتصادي ورفع مستوى الرفاه.

ولكن الضرر الذي ترتب على هذا النموذج الاقتصادي كان عميقا جدا، وتشكل بسببه اقتصاد مشوّه وهش وغير منتج. فما زلنا نعتمد بشكل شبه كلي على النفط، فأكثر من 90% من إيرادات الحكومة مصدرها النفط، حيث فشلنا خلال الأربعة عقود الماضية في تنويع مصادر دخل الحكومة، كما فشلنا في تنويع مصادر الدخل للاقتصاد بشكل عام، فالنفط هو المحرك الرئيسي لكل الاقتصاد، كما أنه يمثل أكثر من 80% من صادراتنا.

ولا تشكل صادراتنا غير النفطية أكثر من 200 مليار ريال، بينما يتجاوز حجم ما نستورده من العالم أكثر من 800 مليار ريال، يضاف إليها حجم ما ندفعه للعمالة الأجنبية التي تتجاوز فاتورتهم أكثر من 150 مليار سنويا، وإنفاق المواطنين في السياحة الخارجية الذي يتجاوز حجمه 70 مليار ريال سنويا، أي أن مجموع ما نستهلكه من العالم يفوق 1000 مليار ريال (267 مليار دولار)، بينما لا نقدم للعالم - من غير النفط - أكثر من 200 مليار ريال (53 مليار دولار) وحتى لو أضفنا لهذا الرقم عوائدنا من الحج والعمرة - وهي حوالي 60 مليار ريال (16 مليار دولار) سنويا - فإن الرقم لن يتجاوز 260 مليار ريال (69 مليار دولار).

كما أن قلب الاقتصاد ومصدر خلق الوظائف الرئيسي وهو القطاع الخاص أصبح يعتمد بشكل شبه كامل على العمالة الرخيصة، التي تمثل أكثر من 80% من العاملين فيه، كما أن وفرة هذه العمالة الرخيصة خفضت من مستويات الرواتب بشكل حاد في القطاع الخاص، وخلقت فجوة كبيرة بين رواتب القطاع الحكومي ورواتب القطاع الخاص.

كما أن العمالة الرخيصة قتلت أي حافز لرفع الإنتاجية، فمع وفرة اليد الرخيصة لا تضطر الشركات إلى الاستثمار في الأتمتة ولا إلى رفع الكفاءة لتقليل الاعتماد على العنصر البشري.

كما أدى الاعتماد على العمالة الوافدة إلى ظهور تشوه آخر، وهو اعتماد القطاع الخاص على لغة تختلف عن اللغة الأم، في حالة فريدة وشاذة لا نشاهدها إلا في السعودية ودول الخليج، حيث يدرس المواطنون 12 سنة باللغة العربية، ثم يطلب منهم أن يعملوا بلغة أخرى غير لغتهم الأم، مما يؤدي إلى انخفاض حاد في إنتاجية المواطن لدى دخوله القطاع الخاص، انخفاض في الإنتاجية لا يمكن أن يلام عليه المواطن، الذي يطلب منه العمل بلغة غير لغته الأم كأنه هو المهاجر وليس ابن البلد.

لقد تحول القطاع الخاص بسبب كل تلك التشوهات الاقتصادية المتراكمة إلى قطاع طفيلي غير قادر على البقاء إلا باستمرار الدعم الحكومي ووفرة العمالة الرخيصة، وكلما نما هذا القطاع كلما زاد التشوه وزاد استهلاك هذا القطاع للموارد الاقتصادية، بدءا بالاستهلاك المسرف للطاقة الرخيصة وانتهاءً بزيادة العمالة الرخيصة التي تحوّل سنويا عشرات المليارات من الريالات إلى خارج البلاد.

كل تلك التشوهات جعلت الاقتصاد السعودي هشّا ومعرضا للهزات مع أي انخفاض في أسعار النفط، مع استهلاك للموارد يتضخم يوما بعد يوم من دون أن ينجح الاقتصاد في زيادة حجم الكعكة، بل إن الكعكة أصبحت أصغر مع انخفاض أسعار النفط، وعدد من يتقاسمها أصبح أكبر بكثير.

إذا كان نمط الدولة الأبوية غير قابل للاستمرار، فإنه لا بديل أمام الحكومة إلا البدء في رحلة التحول لاقتصاد منتج، اقتصاد يخلق ثروته بأيدي مواطنيه وليس بمقايضة نفط يستخرج من تحت الأرض لشراء سلع العالم واستيراد العمالة الرخيصة.

اقتصاد منتج يضمن استدامة مستوى الرفاه الحالي مهما كان مصير ومستقبل أسعار النفط.

وأولى خطوات رحلة التحول لاقتصاد منتج هي إزالة التشوهات الاقتصادية الموجودة حاليا لتمهد البيئة الملائمة لبناء اقتصاد منتج وصناعي، وقادر على النمو الصحّي المستدام. كما أن إزالة تلك التشوهات ستكون أولى خطوات بداية النهاية للدولة الأبوية.

أبرز ملامح تلك الخطوات هو رفع الدعم الحكومي عن أسعار الوقود والكهرباء وغيرها من السلع والخدمات، وربما الاستعاضة بهذا الدعم، بدعم المواطنين نقدا وبشكل مباشر، وتقليص التوظيف الحكومي إلى الحد الأدنى، وتقليص استقدام العمالة الاجنبية إلى الحد الأدنى، وتخفيض سعر صرف الريال، وفرض ضريبة على المبيعات، وفرض ضريبة على دخل الأفراد والشركات.

بالإضافة إلى ذلك، كسر الاحتكارات في بعض القطاعات الاقتصادية المهمة كالبنوك وشركات الإسمنت وبعض القطاعات الخدمية الحيوية والتشديد في تنفيذ رسوم الأراضي البيضاء للقضاء على احتكارات الأراضي بشكل كامل.

كثير من تلك الإصلاحات أشار إليها الأمير محمد بن سلمان خلال لقائه مع توماس فريدمان، ولكن من المستبعد جدا أن تقوم الحكومة بتطبيق كل تلك الإجراءات في المدى القصير أو حتى المتوسط.

ولكن على الأرجح - إن صحت التسريبات - فإن بعضا من تلك الخطوات ستقوم بها الدولة خلال الفترة القريبة القادمة - أو ربما مع بداية السنة الميلادية الجديدة 2016 حسب ما ألمحت له بعض التسريبات.

ولكن، سواء تم تطبيق كل الخطوات أو تطبيق جزء منها، فإن لتلك الإصلاحات تكاليف سياسية واجتماعية باهظة. فكل تلك الإصلاحات دون استثناء ستؤثر سلبا في المستوى المعيشي الحالي للمواطن وتقلل من مستوى رفاه المجتمع، كما ستؤثر سلبا في مستوى ربحية الشركات، بل قد تؤدي إلى خسارة أو إفلاس بعض الشركات التي تعتمد في ربحيتها على الدعم والتسهيلات الحكومية.

من طبيعة الإصلاحات الاقتصادية الجذرية أنها مؤلمة، وأن لها دائما الكثير من الضحايا، سواء كانوا من المواطنين أو من القطاع الخاص، بل إن هذا الألم الذي يصحب الإصلاحات الاقتصادية الجذرية هو الذي يميزها عن الإصلاحات السطحية أو التحسينات التي لا تمس التشوهات الهيكلية، فرفع كفاءة القطاعات الحكومية أو وضع مؤشرات لقياس الأداء لتلك القطاعات، رغم أهميته، إلا أنه لا يمكن أن يصنف كإصلاحات جذرية. بل إن رفع الكفاءة مع وجود تشوهات هيكلية قد يكون ضرره أكبر من نفعه، فهو أشبه بزيادة سرعة سيارة تسير في الاتجاه الخاطئ.

هذه السمة التي تميز الإصلاحات الاقتصادية الجذرية - سمة الألم وكثرة الضحايا - هي التي تجعل كلفة هذه الإصلاحات الاقتصادية سياسيا مرتفعة، وهي التي تدفع السياسي إلى تأجيلها كثيرا، فيتم شراء الاستقرار على المدى القصير، أو كسب رضا الناس، على حساب الاقتصاد على المدى الطويل.

ولأن التشوهات الاقتصادية في السعودية تراكمت على مرّ عقود وغرست أنيابها في كل شبر من جسد الاقتصاد، فإن ضرر تلك الإصلاحات سيشمل الجميع دون استثناء، وستتضرر منها شرائح واسعة من المجتمع، ولا شك أنها ستجد اعتراضات كثيرة وردود فعل شعبية غاضبة ورافضة لتلك الإصلاحات.

إذا كان لتلك الإصلاحات المرتقبة كلفة سياسية اجتماعية عالية، وفي نفس الوقت كانت تلك الإصلاحات ضرورية جدا لبناء اقتصاد منتج مستدام يضمن أن تعيش الأجيال القادمة بالسعودية بنفس مستوى الرفاه الذي يعيشه المواطنون اليوم أو أفضل، فكيف يمكن أن تنفذ الحكومة في السعودية تلك الإصلاحات بالحد الأدنى من الكلفة السياسية، وكيف تقلل من الرد الفعلي السلبي المتوقع إلى أدنى حد ممكن؟

إن الانتقال من ضفة الاقتصاد الريعي الأبوي إلى ضفة الاقتصاد المنتج المستدام، يتطلب بناء جسر من الثقة بين المواطنين والحكومة يضمن انتقالا سلسا بين الضفتين، هذا الجسر لا يمكن بناؤه إلا إذا قامت الحكومة بعدة خطوات لكسب ثقة الناس وجعلهم مهيئين لتحمل كلفة الإصلاحات مهما بلغت.

أولى خطوات بناء جسر الثقة هي المصارحة. من الضروري أن تشارك الحكومة المواطنين بحقيقة المخاطر التي تواجه الاقتصاد السعودي. يجب أن يعلم المواطنون أن النفط قد لا يعود لمستوياته السابقة، وأن استمرار أسعاره بهذه المستويات سيجعل السعودية تواجه أزمة اقتصادية حادة، أزمة يجب التعامل معها في أقرب وقت ممكن، لتقليل ضررها، وأن تصارح الحكومة المواطنين بأنه لا بديل عن الإصلاحات الاقتصادية التي ستؤثر سلبا في مستوى الرفاه لغالبية المواطنين.

كما يجب أن يتوقف الخطاب الرسمي الذي ما زال يجمّل في الوضع الاقتصادي، الخطاب الذي ما زال مستمرا في طمأنة المواطن بأن الاقتصاد السعودي متين ولا يتأثر بانخفاض أسعار النفط. فهذا الخطاب - بالإضافة إلى أنّه غير صحيح - لا يخلق الأرضية المناسبة لتقبل الإصلاحات الاقتصادية المكلفة، بل إنه سيدفع المواطن للتساؤل: إن كان كل شيء على ما يرام، فلماذا تقوم الحكومة بهذه الإجراءات التي تجعل حياتي أكثر صعوبة؟

يجب أن يعرف المواطنون أن الاقتصاد ليس بخير، وأن الإصلاح الاقتصادي إن لم يبدأ اليوم، فإن غدا سيكون متأخرا جدا، وستكون فاتورة الإصلاح وكلفته أعلى، والألم أكبر. وأن يعرف المواطنون بأن التأخر في تنفيذ هذه الإصلاحات سيؤجل الكارثة، ولكنها ستكون كارثة أصعب، وربما تكون كارثة لا يمكن علاجها في ذلك الحين.

الخطوة التي يجب أن تلي مصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع الاقتصادية هي توعيته بأهمية الإصلاحات الاقتصادية، وأن يعرف المواطنون بشكل تفصيلي الهدف من كل قرار اقتصادي، وأن يعرفوا تأثيره على حاضرهم، وتأثيره على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. يجب أن يتم حشد كل وسائل الإعلام من أجل هذا الدور التوعوي، فعندما يعي المواطن ضرورة تلك القرارات فإنه سيكون أقرب لتقبلها.

أما الخطوة الأهم والأكثر تأثيرا في بناء جسر الثقة وضمان متانته فهي: محاربة الفساد. هناك انطباع سائد لدى شرائح واسعة من المجتمع - إن لم نقل كل المجتمع - أن الفساد مستشرٍ في كل أوصال الدولة. هذه القناعة بانتشار الفساد تجعل المساس بالدعم الحكومي الذي يستفيد منه المواطنون أمرا صعبا.

 فمن الصعب أن نتوقع أن يقبل المواطن برفع سعر الوقود أو الكهرباء وهو يعتقد جازما باستشراء الفساد. فكل مساس بالدعم والمزايا التي يتلقاها المواطنون، سيجرّهم للتساؤل: لماذا يستمر الفاسدون في استنزاف أموال الدولة بينما نتحمل وحدنا فاتورة الإصلاح الاقتصادي؟ وهو سؤال بديهي وليس من السهل الإجابة عنه.

ولذلك لا خيار إلا بنزع أسباب هذا السؤال من خلال إعلان حرب حقيقية على الفساد، والإعلان عن خطوات عملية تزرع الاطمئنان بين المواطنين بأن الفساد لن يكون له مكان بعد اليوم. خطوات كفرض قانون كشف الذمة المالية، لمتابعة حسابات وأرصدة كل المسؤولين الحكوميين، وهو قانون تأخر كثيرا، وسيسهم بشكل فعّال في تقليل الفساد.

كما أن محاكمة سرّاق المال العام مهما كانت مناصبهم، وإدانة من تثبت عليه التهمة، والتشهير به، سيكون له أثر السحر في زيادة ثقة المواطنين. فمن دون محاربة الفساد لا يمكننا أن نطلب من المواطن بشد الحزام، بينما هو يعتقد جازما أن غيره يستأثر بخيرات البلد من دون وجه حق.

بالإضافة إلى المحاربة الجادة للفساد المباشر، يجب وقف الهدر المالي في القطاعات الحكومية وزيادة دور الأجهزة الرقابية، ورفع مستوى الشفافية في كل ما يتعلق بقنوات الصرف.

كما أن قرار فرض الرسوم على الأراضي البيضاء لكسر الاحتكارات - وهو قرار يمكن تصنيفه ضمن الإصلاحات الاقتصادية الجذرية - يمكن أن يستفاد منه لرفع مستوى الثقة لدى المواطنين والبرهنة على أن الجميع متساوون أمام القانون، وذلك من خلال تطبيق هذا النظام على الجميع دون استثناء وخاصة على أفراد الأسرة الحاكمة الذين يملك بعضهم مساحات واسعة جدا من الأراضي البيضاء.

وأخيرا فإن زيادة المشاركة الشعبية في القرار السياسي والاقتصادي ستكون صمام أمان إضافيا ولبنة مهمة لجعل جسر الثقة قادرا على تحمل كل القرارات مهما كان وزنها وكلفتها على المواطنين. فعندما يشعر المواطن أنه مشارك في القرارات التي تؤثر في مستقبله وأن صوته مسموع وأنه قادر على التأثير والتغيير وقادر على المشاركة في المحاسبة والرقابة، فإن ذلك كفيل بأن يجعله مقتنعا أنه جزء حقيقي من أي عملية إصلاحية اقتصادية، ولن يتردد في تقبل هذه الإصلاحات بل سيكون على الأرجح عنصرا فعالا في تبني تلك الإصلاحات ونشر الوعي بأهميتها.

زيادة مستوى التمثيل الشعبي ألمح له الأمير محمد بن سلمان خلال لقائه مع توماس فريدمان حين قال الأمير: «حكومة ليست جزءا من المجتمع ولا تمثلهم، من المستحيل أن تستمر». كما أن الأمير «محمد بن سلمان» ألمح قبل ذلك، في برنامج عرض على قناة العربية، بقناعته أن يكون أعضاء المجالس المحلية في المناطق منتخبين. الأمل هو أن يتم الإعلان عن أولى خطوات زيادة التمثيل الشعبي بالتزامن مع حزمة القرارات المتعلقة بالإصلاحات الاقتصادية.

إن على عاتق القيادة في السعودية مسؤولية كبرى اليوم، فنافذة الإصلاح الاقتصادي ربما لن تبقى مفتوحة لأكثر من 3 إلى 5 سنوات. إن مرت تلك السنوات من دون إصلاحات اقتصادية جذرية، فقد يكون الوقت قد فات، وستكون الإصلاحات ذات كلفة اجتماعية وسياسية لا يمكن تحملّها ولا يمكن توقّع عواقبها.

تملك القيادة السعودية اليوم رصيدا سياسيا شعبيا مرتفعا كما تملك الحكومة احتياطيات أجنبية ضخمة تتجاوز 650 مليار دولار، الرصيد السياسي والاحتياطي الأجنبي كلاهما قد يتآكل إذا استمرت مستويات أسعار النفط الحالية وازداد الوضع الاقتصادي سوءا ولم تبدأ الدولة بإصلاحات اقتصادية حقيقية، وتآكل الرصيد السياسي ورصيد الاحتياطيات الأجنبية هو ما سيجعل الإصلاحات أصعب كثيرا بعد سنوات.

لذلك فإن اليوم هو الوقت الأمثل لاستخدام هذا الرصيد السياسي المرتفع لتمرير القرارات الاقتصادية الصعبة قبل فوات الأوان، ولكن رغم ارتفاع الرصيد السياسي الشعبي للقيادة في السعودية فإنه من المهم دعم هذا الرصيد بشكل أكبر لضمان مرور الإصلاحات بالحد الأدنى من ردود الفعل الشعبية السلبية، وذلك من خلال بناء جسر من الثقة بين الحكومة والشعب، بمصارحته بحقيقة الأوضاع الاقتصادية ونشر الوعي بكل ما يتعلق بالإصلاحات الجذرية التي نحتاج إليها والمحاربة الحقيقية لكل أشكال الفساد والمحسوبيات، وزيادة مستوى التمثيل والمشاركة الشعبية في القرارات الحكومية.

رحلة التحول من اقتصاد ريعي أبوي إلى اقتصاد منتج مستدام لن تكون رحلة سهلة وستتطلب تكاتفا من كل الأطراف. وكما أن المواطن سيتضرر على المدى القصير من تلك الرحلة، فإن من حقه أن يتأكد أنه لن يتحمل وحده فاتورة انخفاض أسعار النفط وفاتورة الإصلاحات الاقتصادية.

يجب أن تجعل الدولة الاقتصاد المشوه عدوا قوميا، وتجعل مهمة إصلاح هذا الاقتصاد مهمة وطنية، يُحشد من أجلها كل المواطنين. ويجب شيطنة التشوه الاقتصادي الحالي كما يتم شيطنة الأعداء السياسيين، وأن تبعث الحكومة برسالة واضحة لكل المواطنين مفادها أن هذا الاقتصاد المشوه هو التهديد الأول والأخطر على الاستقرار والأمن، بالإضافة لكونه تهديدا لمستوى الرفاه الذي يعيشه المواطنون.

إذا ترسخت تلك القناعة لدى كل مواطن، ونجحت الدولة أيضا في بناء جسر الثقة، فأنا على يقين أن الجميع سيكون مستعدا للتضحية، وسيخطو لعبور جسر الثقة الذي تم بناؤه، عندها سنكون واثقين بأننا سننجح في عبور الجسر والتحول من الدولة الأبوية إلى الدولة المنتجة الفتية.