بدر الراشد، العربي الجديد- الخليج الجديد-
تطورات الساعات الأربع والعشرين الأخيرة بين محوري السعودية وإيران، لنواحي قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية حتى، وطرد السفراء، والحروب الكلامية غير المسبوقة، توحي بانتقال المواجهة غير المباشرة القديمة بين عاصمتي المحورين، طهران والرياض، إلى الحيّز المباشر ربما. التصعيد سيد الموقف على جميع الأصعدة، ووصل إلى مستوى قطع كل من السعودية والبحرين والسودان علاقاتهم مع إيران، وهو ما وصل إلى مستوى الخطوات التي تسود الحروب عادة بالنسبة للخطوات السعودية، بعدما أوضح وزير الخارجية السعودية، عادل الجبير، أمس الاثنين، أن قطع العلاقات "سيمتد ليشمل وقف حركة الملاحة الجوية مع إيران وإنهاء العلاقات التجارية ومنع مواطنيها من السفر إلى الجمهورية الإسلامية".
وقال الجبير في مقابلة أجرتها معه وكالة "رويترز" إن الحجاج الإيرانيين ما زالوا محل ترحيب لزيارة الأماكن المقدسة في السعودية، واضعاً شرطاً أساسياً لإعادة العلاقات، عنوانه "أن تتصرف إيران مثل دولة طبيعية وليست ثورية". كلام وخطوات سعودية وبحرينية وسودانية استهلّت ما يبدو أنه ترجمة لما أعلنه الجبير، ليل الأحد، عندما قال، إن الرياض "ستواجه السياسات الإيرانية في المنطقة العربية"، وهو ما قرأته طهران عندما أعلنت أن الهدف من الخطوات السعودية هو "محاصرة إيران في علاقاتها مع المنطقة العربية".
بين أيدي السعودية، أوراق عدة يُمكن استخدامها في مواجهة إيران، من بينها ما هو غير متوقع، كدعم الأقلية العربية الأحوازية في إيران، ومنها ما هو محتمل، كتفعيل الدور السعودي على الساحة العراقية، إلا أن المشهد يبدو أكثر تعقيداً بكثير.
هناك أربع ساحات رئيسية للاشتباك مع إيران إقليمياً، وهي الساحات اللبنانية، والسورية، والعراقية، واليمنية. وقد أسقطت السعودية مبكراً مملكة البحرين كورقة، يمكن لإيران أن تلعبها في المنطقة، وذلك بعد تدخلها بشكل مباشر عبر إرسال قوات درع الجزيرة، لضمان حدوث أي تغيّر سياسي محتمل في المملكة، قد يكون لصالح إيران. ويُستبعد على نطاق واسع دخول السعودية على خط الداخل الإيراني، بدعم عرب الأحواز.
التهدئة في لبنان
ما زالت الساحة اللبنانية هادئة حتى اللحظة، هدوء غير مريح بطبيعة الحال، إذ دائماً ما انعكست التوترات الإقليمية على الشأن الداخلي اللبناني بشكل قاس. والتوتر السعودي ـ الإيراني، ينعكس مباشرة على الساحة السياسية اللبنانية عادة، عبر تجاذبات بين قوى 14 آذار، لا سيما تيار المستقبل، وزعيمه سعد الحريري المقرّب من الرياض، في مقابل تيار 8 آذار، لا سيما حزب الله، الذي يُعدّ زعيمه حسن نصر الله رجل إيران، لا في لبنان وحسب، بل في كل المنطقة.
مفاجأة التهدئة في لبنان جاءت عبر ترشيح الحريري، لزعيم تيار المردة، سليمان فرنجية، لرئاسة الجمهورية في لبنان. الترشيح ليس مفاجئاً لأن فرنجية صديق حميم للرئيس السوري، بشار الأسد، أو لأنه يتمتع بعلاقات ممتازة مع إيران فحسب، بل لأنه يأتي في ظل توتر إقليمي حادّ بين طهران والرياض، سبق قطع العلاقات.
غير أنه في مقابل ترشيح فرنجية، يتمسك حزب الله بزعيم التيار الوطني الحر، ميشال عون، على الرغم من كونه خياراً غير محبّذ للحزب، ولكن الترشيح يأتي في إطار تمسكه بعون كحليف.
هذا الهدوء المخيف لبنانياً، قد ينفجر في أي لحظة، على شكل أزمة سياسية، أو أكبر، بحكم أن الساحة اللبنانية شديدة الهشاشة، ودائماً ما كانت قابلة للتفجر عند أي هزة إقليمية. لا يتوقع أن تسعى الرياض إلى استخدام الساحة اللبنانية للضغط على طهران، بسبب تعقيدات المشهد اللبناني، خصوصاً أن حزب الله الموالي لطهران يمتلك قوة عسكرية، تمكنه من حسم الأمور لصالحه عسكرياً، في حال وصول المواجهة إلى هذا المستوى.
لا جديد في سورية
تخوض السعودية عملياً مواجهة غير مباشرة إلى جانب حلفائها ضد إيران في سورية، وقد صعّدت من خطابها، أخيراً، ضد الأسد، مع تكثيف الدعم العسكري للفصائل الثورية التي تعمل ضده، والمليشيات الموالية لإيران، وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). من غير المتوقع أن يكون هناك جديد سعودي ضد حلفاء إيران في سورية، وذلك بسبب التدخل الروسي، الذي جعل أي تدخل عسكري سعودي صعباً جداً، قد يقود لأزمة دولية وحرب إقليمية مفتوحة، لا تريد السعودية خوضها في الوقت الراهن.
ستبقى الخيارات السعودية في سورية كما هي، بالضغط باتجاه حل سياسي يستثني الأسد من الساحة السورية، بالإضافة إلى تكثيف الدعم العسكري للفصائل المسلحة، مع بقاء التقارب السعودي ـ التركي على الساحة السورية. وذلك مع تحوّل سورية إلى ساحة حرب إقليمية، لا سيما بين طهران والرياض، منذ وقت مبكر، ولا يتوقع أن يحمل قطع العلاقات السعودية ـ الإيرانية أي جديد في هذا السياق.
الأحواز.. ورقة غير واقعية
يتناقل محللون عرب على نطاق واسع، فكرة أن دعم السعودية للأقليات في إيران، لا سيما العرب في إقليم الأحواز، سيكون أفضل ردّ على توسع النفوذ الإيراني في المنطقة. وتبدو هذه الدعوات غير واقعية لسببين رئيسيين: الأول ضعف الحراك الانفصالي في الأحواز، والتي كانت مملكة عربية مستقلة حتى 1924، عندما ضمّتها إيران بالقوة.
والسبب الآخر، أن دعم السعودية لحراك انفصالي داخل إيران، قد يعطي طهران الذريعة للقيام بشيء مشابه في البحرين، وربما السعودية، من خلال الدفع باتجاه خلق اضطرابات سياسية في شرق المملكة، المنطقة الغنية بالنفط.
السعودية قامت، أخيراً، بدعم قضية الأحواز إعلامياً، وواصلت وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واس"، تغطيتها نشاطات "حركة النضال العربي لتحرير الأحواز" بشكل كبير. كما أنشأت موقعاً إلكترونياً لها باللغة الفارسية، في محاولة لاستهداف الداخل الإيراني.
وقامت قناة الإخبارية السعودية الرسمية بعمل تغطيات مشابهة، ونشر مواد إعلامية حصرية في أوقات سابقة لأعمال عنف قام بها أحوازيون ضد منشآت إيرانية. لكن من غير المتوقع أن يترجم هذا الدعم الإعلامي إلى دعم عسكري مباشر، بالتسليح على سبيل المثال، لأن تعقيدات المشهد لا تحتمل خطوة مثل هذه، والتي ستعتبر من طهران بمثابة إعلان حرب مباشرة، لا يمكن السيطرة على تداعياتها مستقبلاً.
العراق المواجهة المباشرة
الساحة العراقية هي المكان الأبرز لأي تصعيد محتمل مع إيران، إذا أرادت الرياض ذلك. ليس للسعودية حضور مهم على الساحة العراقية، منذ الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين في 2003، وكأن الأمر جاء بمثابة انسحاب اختياري من العراق. مما جعل إيران تنفرد به، خلال السنوات الماضية، وكلّف الأمر السعودية الكثير سياسياً وعسكرياً على المستوى الإقليمي.
حتى أن ما يُشاع باعتباره "عودة للسعودية لأداء دور على الساحة العراقية، عبر دخولها في التحالف الدولي الذي أعلنته الولايات المتحدة لمواجهة داعش في 2014"، لم يكن دقيقاً.
وتشير معلومات متواترة في هذا الصدد، إلى أن ضربات القوات الجوية السعودية لـ"داعش" لم تكن في الأراضي العراقية، بل السورية، وذلك بسبب حساسية بغداد من أي دور للسعودية على أراضيها، حتى ضمن تحالف أميركي.
تملك السعودية كثيراً من الأسباب للتدخل في العراق، أهمها مواجهة خطر "داعش"، الذي يُمثّل خطراً على الأمن الوطني السعودي، بالإضافة إلى خطر التنظيم الإقليمي والدولي.
هذا بالإضافة إلى مخاوف السعودية من النفوذ الإيراني، الذي جعل بغداد بمثابة عاصمة أخرى لطهران، وهي الحالة التي عبر عنها بشكل صريح مستشار الرئيس الإيراني، علي يونسي، في مارس/آذار 2015، حين قال، إن إيران "أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً".
الساحة العراقية هي الساحة الوحيدة التي تمنح السعودية إمكانية التصعيد مع إيران، من خلال دعم القوى التي يمكن أن تتحالف معها، لمواجهة "داعش".
ربما لا يمكن قراءة إمكانية تصعيد من هذا النوع، مع خطوة السعودية المتأخرة بفتح سفارتها في بغداد، وإعادة حضورها الدبلوماسي هناك. لكن لا يبدو أن بقاء الدبلوماسيين السعوديين في بغداد أمر منتهٍ، خصوصاً في ظل دعم حكومة بغداد للخطوات الإيرانية ضد السعودية، والأنباء عن استهداف مقر السفارة السعودية في بغداد من ميلشيات، ودعوات ميلشيات "الحشد الشعبي" لقطع العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، ضمن تداعيات إعدام نمر النمر.
الدور الخليجي
تتفاوت علاقات دول الخليج مع إيران، بين "الجيدة جداً"، كسلطنة عُمان، وبين "السيئة جداً"، كالبحرين، والسعودية. لكن الأكيد أن علاقات دول الخليج مع السعودية أعمق، وذات أبعاد استراتيجية تتعدّى الشراكة أو التحالف، ولا يمكن أن يتم الإضرار بهذه العلاقات بأي حال، من أي دولة من دول مجلس التعاون.
من هنا جاءت مسارعة البحرين إلى قطع العلاقات مع إيران، بعد السعودية مباشرة، وقيام دولة الإمارات بخطوة أقل جذرية، تتمثل بتخفيض التمثيل الدبلوماسي في طهران، وتخفيض عدد الدبلوماسيين الإيرانيين في أبو ظبي. كما سارعت كل من قطر والكويت إلى شجب اقتحام إيرانيين السفارة السعودية في طهران، وقنصليتها في مشهد، لتؤكد دول الخليج، أنها ستقف مع السعودية، حتى وإن لم تقطع علاقتها الدبلوماسية بشكل كامل مع طهران.
أما سلطنة عُمان، فيبدو أنها مستمرة في سياساتها المرتكزة على تجنّب أي استقطاب إقليمي، وهي السياسة الثابتة منذ الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، وحتى التحالف العربي، بقيادة السعودية، في اليمن.
رغم التصريح اللافت لسفير عُمان في طهران، سعود البرواني، تجاه الرياض، يوم أمس، خلال لقائه رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني، والذي نقلته وكالة أنباء مجلس الشورى الإيراني، حيث اعتبر فيها السفير العُماني، قطع العلاقات مع إيران "قراراً غير حكيم وفق الظروف الحالية" واصفاً الخطوة السعودية بأنها "تأتي من أجل الضغط على إيران ووضع الاتفاق النووي ونتائجه على المحك".
تباينات عربية
تباينت ردود الفعل العربية إزاء القطيعة السعودية ـ الإيرانية، فبينما قامت السودان بقطع علاقتها مع إيران تضامناً مع السعودية، اكتفت موريتانيا بالتنديد بالاعتداءات الإيرانية على السفارة والقنصلية السعودية في إيران، وعبّرت عن رفضها التدخلات في الشؤون الداخلية للدول، في إشارة إلى التصريحات الإيرانية ضد السعودية. الجزائر من ناحيتها أعلنت عن "أسفها على تدهور العلاقات بين إيران والسعودية"، داعية الطرفين إلى "التعقل وضبط النفس".
في هذا السياق، يحتمل أن تخطو الأردن خطوة مشابهة للسودان والبحرين، بينما ما يزال الوضع حائراً في اليمن، بين قطع العلاقات المعلن عنه قبل أشهر، وبين تجميد العلاقات في إعلان آخر، واستمرار عمل البعثة الدبلوماسية في طهران والسفارة الإيرانية في صنعاء. ويتمّ التعامل مع البعثة الدبلوماسية اليمنية في طهران، كـ"بعثة موالية" للرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح والحوثيين، بحسب مراقبين.
يتوقع أن تضغط السعودية بشكل أكبر على الدول العربية، لا سيما الحليفة لها، لاتخاذ مواقع أكثر صرامة مع الجانب الإيراني، فيما يعد ترجمة حرفية لتصريحات وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، المتكررة، حول عزل طهران عربياً، في محاولة للحدّ من نفوذها في المنطقة.
هذا الموقف السعودي، قد يكون محرجاً، إلى درجة كبيرة، للجانب المصري، الذي يُعدّ نظامه السياسي، نظرياً، حليفاً قوياً للسعودية، من دون اتخاذ أي خطوات ملموسة في مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، تحديداً على الساحة السورية. وقد يُمثّل قطع العلاقات السعودية ـ الإيرانية اختباراً مهماً لنظام الرئيس، عبدالفتاح السيسي، الذي يُنتظر منه على نطاق واسع، تحديد موقف أكثر وضوحاً وصراحة، تجاه الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران.