الخليج الجديد-
ربما كان أحد أصعب أركان الحصار الذي بدأته كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر، أنه كان في مدخل شهر رمضان الماضي 1438هـ، وفي العرف الإسلامي عامة والعربي الخليجي على وجه الخصوص كانت ترتبط تلك الأيام بالكرم وصلة الأرحام ونسيان الخلاف.
«يؤسفنا أن إخوتنا بدأوا الحصار في شهر رمضان»، كان ذلك التصريح الذي أطلقه أمير قطر «تميم بن حمد آل ثاني»، في ديسمبر/كانون الأول 2017، أي بعد الحصار بنحو ستة أشهر، يحمل الكثير من المعاني، والذكريات المؤلمة أيضا عن رمضان دخلته الدوحة وهي محاصرة، فلا أغذية تدخل إلى متاجرها ولا أموال إلى مصارفها من «دول مسلمة شقيقة»، علاوة على أرحام تقطعت بين أسر على شطري الحدود بين قطر والسعودية في هذا الشهر.
متاجر الأغذية القطرية استقبلت رمضان الماضي بوضع حرج، بعد أن أوقفت السعودية شحناتها إلى الدوحة، والتي كانت تعتمد عليها في توفير معظم احتياجات القطريين الغذائية.
مشهد التزاحم
المشهد الذي لم ينسه الكثيرون كان التزاحم الكبير للقطريين على المتاجر بعد ساعات قليلة من إعلان الحصار، لتدبير احتياجات منازلهم الرمضانية من الأغذية، وكانت النتيجة الحتمية بعد إغلاق السعودية حدودها البرية، هي نفاذ معظم البضائع وخلو الأرفف في ساعات من مواد أساسية، كالحليب والأرز والدجاج واللحوم.
قطريون وصفوا تلك الساعات بـ«ساعات الفزع»، بسبب مشهد تدافع الناس داخل المحال التجارية للحصول على احتياجاتهم، في مشهد أريد له أن يتحول إلى ما يشبه المجاعة التي قد تدفع الناس إلى الخروج على النظام العام والحاكم، وكان سقوط الأخير هو الهدف الأساسي لدول الحصار من بداية الأزمة، ولا يزال.
كان لافتا تعليق أحد المواطنين الألمان المقيمين في قطر، حينما سأله مراسل موقع «يورو نيوز»، بينما كان يتسوق لشراء ما يمكن شراؤه، قائلا: «هذه مجرد بطاقة صفراء، ما الذي يستطيعون فعله؟ هذه واحدة من أغنى دول العالم».
صناعة غذاء وطنية
وإذا كان الألماني قد حسبها بمنطق الأموال، فإن حكومة قطر حسبتها – بالإضافة إلى ذلك – بمنطق السيادة الوطنية، فسارت على طريقين بشكل متواز، الأول محاولة توفير بدائل سريعة للناس، حتى مرور الفترة الحرجة من الأزمة، أما الثاني فكان هو الأهم، وهو وضع استراتيجية لصناعات غذائية وطنية تحل محل المستوردة.
وبينما كان الذباب السعودي والإماراتي ينشط على مواقع التواصل، ساخرا من شكل البضائع الغذائية التركية والإيرانية التي عوضت بها قطر أرفف متاجرها الخاوية على عجل، كانت الدوحة تتابع أولى خطوات الطريق الثاني، فتم الاتفاق على إنشاء مصانع وطنية سريعا، داخل قطر وخارجها لإنتاج الألبان واللحوم، وخصصت الدوحة جزءا معتبرا من استثماراتها لهذا الغرض.
وبعد مرور أول عام من الحصار، تستقبل قطر رمضانها الآن بأرفف ممتلئة بمنتجات غذائية مميزة، والأهم أنها هذه المرة «صنع في قطر».
ونقلت صحيفة «العرب» القطرية عن مديري وأصحاب متاجر بالبلاد، تأكيدهم أن البضائع الغذائية الوطنية القطرية باتت تمثل نحو 90% من حجم المعروض لديهم، خصوصا تلك المتعلقة بمشتقات الألبان، إلى جانب الخضراوات.
وكان المسؤولون القطريون قد وضعوا، في ديمسبر/كانون الأول 2017، هدفا بأن تكتفي بلادهم ذاتيا من الألبان واللحوم في منتصف 2018، وهو ما يبدو أنه تحقق بنسبة كبيرة، مع دخول رمضان الجديد.
وفي مارس/آذار الماضي، نقلت وكالة أنباء «الأناضول» عن رئيس شركة «بلدنا» القطرية للصناعات الغذائية، «معتز الخياط» قوله إن شركته قررت تحقيق الاكتفاء الذاتي لأسواق قطر بحلول شهر رمضان، من الحليب الطازج ومنتجات الألبان.
وأضاف «الخياط»: «مزرعة بلدنا في مدينة الخور (شرق) ستستقبل خلال يومين 3 آلاف و200 رأس من الأبقار الحلوب المنتجة القادمة بحراً من الولايات المتحدة الأمريكية».
وتابع: «سبق لبلدنا، بعد الحصار مباشرة، أن استوردت 4 آلاف بقرة من الولايات المتحدة وأوروبا».
وأوضح «الخياط» أن «العدد الجديد من الأبقار يمثل خطوة مهمّة في طريقنا نحو مرحلة نموّ أكثر استدامة وإنتاجاً، وسيساعدنا على تلبية طلب السوق على منتجات الألبان الطازجة عالية الجودة».
واستوردت قطر، منذ أزمة الحصار حتى الآن، الآلاف من رؤوس الأبقار الحية من أمريكا وهولندا وفرنسا، وأقامت مزارع ضخمة ومتطورة لتربيتها وتسمينها.
الآن تدخل قطر رمضانها الثاني بعد الأزمة بشكل مختلف تمام، متاجر ممتلئة بالبضائع، وحركة اعتيادية هادئة، ومستلزمات غذائية كاملة.
منجزات سياسية واقتصادية
وإذا كان الأمر على الصعيد الغذائي ناجحا على هذا النحو، فإنه لم يكن أقل منه على الصعيد السياسي، حيث تستقبل الدوحة رمضانها وسط تموضع سياسي جديد أنجزته تحركات الحكومة القطرية إقليميا ودوليا، أفرز عن انسحاب دول من الحظيرة السعودية الإماراتية في الأزمة، مثل الأردن وجيبوتي وتشاد والسنغال، التي استأنفت علاقاتها مع قطر، بعد أن كانت قد قطعتها بعد الحصار بساعات، بتوجيهات سعودية، علاوة على رفض أوروبي تام للأزمة ومطالبات متكررة لدول الحصار برفعه.
تستقبل قطر رمضان أيضا بتموضع جديد مكان الإمارات في الصومال، وتعزيز للعلاقات مع دول المغرب العربي، والتي كانت محسوبة أيضا على معسكر النفوذ السعودي.
تدخل الدوحة رمضانها الجديد باتفاق شراكة استراتيجي مع الولايات المتحدة، دفع واشنطن إلى الطلب من دول الحصار إنهاء الأزمة، بعد أن فشلت الأخيرة في صنع حالة متصاعدة من شيطنة قطر إقليميا ودوليا.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تدلف قطر إلى رمضان بتوسيع تبادلها التجاري مع أطراف إقليمية ودولية مهمة، وبعملة وطنية بدأت في التعافي من آثار صدمة الحصار، وبقطاع مصرفي تجاوز الأزمة واستأنف تطوره، ونفطي وغازي يتوسع باستمرار، كما قال الرئيس التنفيذي لشركة قطر للبترول «سعد الكعبي».
وتدخل البلاد عامها الثاني تحت الحصار بنسبة نمو اقتصادي متوقعة 2.6% خلال 2018، بعد أن كانت 2% في 2017، بحسب تصريحات وزير الاقتصاد القطري «أحمد بن جاسم آل ثاني».
تستعد قطر، في رمضانها الثاني، إلى زيادة وتيرة استثماراتها العالمية، منتعشة بارتفاع أسعار النفط مجددا، وذلك رغم أنها وضعت ميزانيتها الحالية على أساس سعر للنفط يبلغ نحو 45 دولاراً للبرميل، وهو أدنى سعر في المنطقة، حسبما ذكر وزير المالية القطري «علي العمادي».
دخلت قطر رمضانها الماضي بحالة صدمة، لكنها تستقبله هذا العام، بينما انتقلت الصدمة إلى أماكن أخرى، في انتظار واقع جديد مفرداته ستكون مختلفة بالتأكيد عن حقبة يونيو/حزيران 2017.