الاعتكاف في رمضان سنة مؤكدة وهدي نبوي، التزم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، حيث قالت السيدة عائشة رضي الله عنها "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ"، وعن أبي هريرة قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُل رَمَضَان عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلمَّا كَانَ العَامُ الذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوماً."
وأما الحكمة من مشروعيته فإن للاعتكاف فوائد عظيمة، فإنه عُزلة مؤقتة عن أمور الحياة، وشواغل الدنيا، وإقبال بالكلية على الله تعالى، وانقطاع عن الاشتغال بالخلق، خصوصاً في ختام شهر رمضان، فهو متمم لفوائده ومقاصده، متدارك لما فات الصائم من هوا القلب، وهدوء النفس والانقطاع إلى الله تعالى.
وعلى هذا فالحكمة من مشروعية الاعتكاف التفرغ للعبادة من صلاة وذكر وتلاوة وغير ذلك، وهذا لا يتم إلا بالعزلة عن الناس، وهذه العزلة لا تتحقق إلا بمكان خاص يخلو فيه المعتكف كما يوجد في كثير من المساجد، حيث يوجد فيها غرف خاصة يخلو فيها المعتكفون، أما في مثل الحرمين الشريفين أو المساجد الكبيرة فإن الخلوة فيها متعذرة غالباً، لكن إذا انتفت الخلوة الحقيقية أو الحسية فلا ينبغي تفويت الخلوة الحكمية أو المعنوية، بمعنى أن يحرص المعتكف على الانفراد بنفسه ولو كان معه غيره في المكان، ولا يتم هذا إلا بإدراك معنى الاعتكاف وحكمته ووظيفة المعتكف، ومنع النفس من الاسترسال في مخالطة الآخرين والرغبة في التحدث معهم .
ولجدلية سنة الاعتكاف بالنسبة للمرأة المسلمة، ارتأى "دوحة الصائم" أن يطرح هذا الموضوع على الشيخ موافي عزب-الخبير الشرعي بوزارة الأوقاف والمستشار الشرعي في الهلال الأحمر القطري-، الذي أكد في مستهل حديثه أنَّ الثابت في السنة أنَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم كنَّ يعتكفن مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي، كما أنهن اعتكفن من بعده شريطة وجود ضوابط ومعايير لاعتكاف المرأة المسلمة، تختلف عن اعتكاف الرجال، حيث لابد أن يكون المكان مناسبا لاعتكافها، وأن يكون هناك من يقوم على خدمتها في ما يتعلق بتوفير وجبات الطعام، إلى جانب توفير خدمات ومرافق في المسجد الذي تعتكف فيه، مع ضمان عدم اختلاطها بالرجال الأجانب، لافتا فضيلته إلى أنَّه غالبا هذا الأمر يكون في حق المرأة التي ليس لها مسؤوليات، حيث كانت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لهن أبناء، فكان اعتكافهن لا يؤثر على حياتهن ومسؤولياتهن تجاه أسرهن، موضحا أنَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكنَّ يعتكفن جميعهن في المسجد بل كانت هناك من تعتكف في منزلها.
الاعتكاف لا يتعارض مع واجباتها
ووجه فضيلة الشيخ موافي عزب كلمة للنساء موضحا خلالها أنَّ من أرادت الاعتكاف من النساء اللاتي يعلن أسرا، عليها أن تستأذن من زوجها، وتقوم بالتنسيق معه فيما يتعلق بشؤون الأبناء، حتى لا تتضرر الأسرة من الاعتكاف، وألا يعطل الاعتكاف فرضا كواجبات الزوج أو متابعة رعاية الأبناء، لافتا إلى أنَّ الاعتكاف سنة من السنن، ويرى بعض العلماء أن اعتكاف المرأة في منزلها أجدى، قائلا " إنَّ هذا الرأي ما أميل إليه، في أن تعتكف المرأة في منزلها حتى يتسنى لها إدارة منزلها وعدم ترك شؤونه لغيرها."
وحول توقيت الاعتكاف فمن الراجح أنه لا مدة للاعتكاف فبالإمكان أن تكون ساعة أو نصف ساعة، يوما أو أكثر، فالمدة غير معتبرة، لأن المدة تترتب حسب وقتها وحسب جدولها اليومي، وإمكانية ألا يؤثر الاعتكاف على واجباتها تجاه عائلتها، مشددا على ضرورة أن تلتزم المرأة بالضوابط الشرعية إذا ما اعتكفت خارج المنزل من عدم وضع الطيب، أو التبرج، أو مخالطة الرجال الأجانب، حتى لا تضيع الحكمة والغرض الأساسي من إحياء سنة الاعتكاف.
ويجوز للإنسان أن يبطل اعتكافه ويخرج منه دون عذر، ولا إثم عليه، لأن الاعتكاف سنة، والسنة يجوز تركها، لكن الأفضل إتمامه إذا لم يكن هناك عذر لقطعه، تحصيلاً للفضيلة، وإظهاراً للرغبة في الطاعة . وأما مكانه: فهو المسجد، وهو عام في كل مسجد، لقوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) وهذا لفظ عام، فمن خصصه بمسجد معين فعليه الدليل.
وأما وقت دخول مكان الاعتكاف فإن المعتكف يدخل قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَليَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ الليلةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا.." ، ويؤيد ذلك أن من مقاصد الاعتكاف في العشر الأواخر التماس ليلة القدر، وهي ترجى في أوتار العشر، وأولها ليلة إحدى وعشرين، وأما وقت خروج المعتكف في العشر الأواخر فاستحب كثير من أهل العلم أن يكون خروجه من معتكفه عند خروجه لصلاة العيد، لكي يصل عبادة بعبادة.
أخطاء المعتكفين
وحول أخطاء المعتكفين ..يتضح أنه في بعض الأحيان لا يدرك المعتكف معنى الاعتكاف وحكمة مشروعيته، فترتب على هذا تفريط كثير من المعتكفين بقدر كبير من الطاعات التي يعتبر الاعتكاف فرصة للقيام بها، كثرة النوم بالنهار والسهر بالليل في غير طاعة عدا الصلاة مع الإمام وقت التهجد، وهذا خلاف ما ينبغي للمعتكف، وهو تقليل النوم وحفظ الأوقات بالاستفادة منها، لأنها أيام قلائل، المبالغة في استعمال الهاتف النقال في غير فائدة، وأنا أرى أن الاعتكاف لا تتحقق حكمته ويحصل المقصود منه مع وجود الهاتف النقال بالصورة الموجودة الآن، ويمكن للمعتكف أن يتصل بأهله عند الحاجة بالطريقة التي يراها، كثرة التنقل داخل المسجد من مجموعة إلى مجموعة، والإكثار من فضول الكلام وما لا فائدة فيه، مما يكون سبباً في إضاعة الوقت والتفريط في الدقائق الثمينة،
أما التحدث أحياناً مع بعض المعتكفين أو مع الأهل فهذا لا بأس به، لما ثبت في الصحيحين من أن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله عنها زارت النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه وتحدث معها، عدم وضوح جانب التعبد لدى كثير من المعتكفين، ولاسيما الإكثار من تلاوة القرآن وصلاة النفل، إمضاء بعض الوقت في قراءة الكتب، وفي رأيي أن هذا غير مناسب لمن هذه صفته، وإنما يتسامح فيه لمن يستفيد من الوقت في الطاعة، من الناس من يعتكف وأسرته أهله بحاجة إليه، أو ينهاه والده عن الاعتكاف لأسباب مقنعة، فمثل هذا قد فعل سنة، وترك واجباً، فلا ينبغي له أن يعتكف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ( إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً )، أما المتفرغ فالاعتكاف في حقه مشروع، ومن احتاجه أهله أول العشر ثم حصل الاستغناء عنه في أثنائها اعتكف بقية العشر، وهو مثاب على ذلك.
وكالات-